التمهيد: أبو رغال شخصيّة أسطوريّة تختلف عن بقيّة
شخصيّات الرّواية في إغرابها وغموضها فليست شخصيّة واقعيّة أو تاريخيّة وهذا ما
يجعلها محملا مناسبا للدلالات الرمزيّة فقد بعثت في الحكاية مرتين فكأنّها بذلك
تستعيد قصص الأنبياء ووأساطير الإنسان حين يغالب الفناء وينشد الخلود والبقاء وهي
في الأثر الديني فعل تناصّ يستحضر قصّة النبيّ موسى عليه السّلام مع الخضر وأبو
رغال في تجربته اختزال عجيب لمسيرة الإنسان في وجوده فقد أراد مطلق القوّة ومنتهى
الفعل وأورد قومه ذلك حتى يئس منهم ثمّ نشد مطلق الخير وأورده قومه ثمّ طلب الوحي
ومنزلة الآله فاستحال عليه طلبه فطلب الحكمة وأدرك يقينا أنّ"الحكمة
الاعتدال" (التعادليّة).
- بنية التضمين: في حديث الحكمة قصّتان,قصّة أبي هريرة يحدّث عن نفسه في
رحلة التيه والبحث عن الحقيقة وطلب اليقين وقصّة أبي رغال يحدّث بها أبا هريرة
فكأنّما يهديه حكمة الدّهر.
- البعد الرمزي وأساليبه في
النصّ:
+العبارة المرمّزة الموحية: وهذه من أشدّ خصائص الأسلوب
في رواية "حدّث أبو هريرة قال.."بل إنّ المكان والزمان والشخصيّات
تستحيل في الرواية إلى رموز يعبّر من خلالها المسعدي عن مواقفه الفلسفيّة ورؤيته
الوجوديّة وكثيرا ما ترتبط هذه العناصر بالتجارب التي يخوضها بطل الرواية
(الصحراء,الدير,البحر,الجبل,الفجر,الليل,الكهف,البيت,..).
+ التشبيه التمثيلي أو المثل: على نحو من صناعة المثل
صاغ أبو رغال حكمته ومنتهى تأمّله في الحياة والكون وانتهى إلى أنّ الإنسان منشدّ
إلى بعدين فيه يصطرعان بعد جسدي حسيّ وبعد روحي إيماني وهما يتغالبان ولا ينتهيان
ولا ينفي أحدهما الآخر ولا ينهيه وهما في الإنسان "كالحوت في الماء" أي
أنّ العلاقة بينهما تلازميّة تلازم الحياة والموت فالماء حين يمتلئ بالحوت يمتلك
قيمته ومعنى وجوده ويتجاوز معاناة الخواء وقسوة الفراغ وكذلك حين يفيض وجود الحياة
على الماء ينتهي إلى فناء وقيمة وجود الإثنين في كونهما متلازمين.
+في عمق أزمة أبي هريرة ومأساته مأسأة الإنسان في
تردّده بين أبعاد متنافرة وقيم متناقضة
ومعان متخالفة ولا يكون المعنى باستخلاص بعد واحد يسكن له الإنسان ويطمئن وإنّما
المعنى في الجمع بينها في كيان واحد على نحو من الاعتدال.
+تميّزت تجربة الحكمة (العقل) عن بقيّة تجارب أبي هريرة فقد
استلهمها تعلّما لا عملا وفي النصّ إشارات إلى دور المعرفة في التجربة ولذلك
تردّدت عبارات القلم والقرطاس في إشارة رمزيّة لقيمة المعرفة باعتبارها سبيلا من
سبل إدراك الحقيقة وبلوغ اليقين.
+ كانت تجربة الحكمة آخر تجارب أبي هريرة وفيها امّحت
تلك الفواصل التي أشقت أبا هريرة وأتعبته وفي هذه التجربة إدراك لقيمة الاعتدال
(التعادليّة) بين الأبعاد فهو شرط الوجود وحقيقته ولا تمّحي الأبعاد في الإنسان
ولا تخفى إلاّ إذا بلغ الإنسان عتبات المطلق " لم يبق إلاّ أن أطلب
النّهاية".
+على سبيل التناصّ أمضى المسعدي عبارة المسرحي الإنقليزي
شكسبير" أكون أو لا أكون" وفي هذا التضمين قيمتان:
- نصّ المسعدي تجميع للفكر الإنساني وتراثه الأدبي
والفلسفي.
- تكمن مأساة الإنسان في تردّده بين خيارات متناقضة لا توسّط بينها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق