المشاركات الشائعة

الثلاثاء، 19 أكتوبر 2021

 

العيد

كان ذلك آخر ما تبقى ..وأشارت إلى واحدة يتبعها خروفان في ركن من زريبة اجتهدت في رصّ أخشابها وملء ثغراتها بأشواك شجر السدر حتى لا تجوزها الذئاب من الناس والحيوان..دخل التاجر ومعه  ثلاثة من أبنائها وأحاطوا بأحد الخروفين حتى تمكّنوا من مسكه ثمّ ألقوا به في عربة السيّارة وقبل أن يأخذ التاجر مقعده  سألها أن تبيع له الثاني ولكنّها رفضت وهي تقول "ذلك هو عيد أبنائي"..

..ما تبقى هو كلّ ما ترك زوجها الرّاحل منذ خمس سنين ..عشرة أغنام أو يزيد قليلا أكلتها السنوات الخمس كما أكلت من عمرها حتى لم يعرفها الناس وكانت إذا سئلت عن تغيّر حالها وذهاب شبابها نظرت مزهوّة إلى أبنائها الثلاثة وفي صوت يملؤه الفخر أجابت "هؤلائي جنّتي وشبابي وفرحتي.."

ترك لها ثلاثة من الأبناء وبيتا صغيرا في أقصى القرية اجتهدا معا في جمع حجارته وبنائه وكان جنّتهم إلى حين..ترك لها كثيرا من الذكرى والأحلام الشاردة كالغيوم تسوقها الريح بلا وجهة فهي كالأقدار تسوق النّاس والأعمار..

كانت تشتغل طول يومها في البساتين المنتشرة في السهول وتجمع في عملها قليلا من عشب فإذا كان الغروب سارت حيث ذلك البيت القصيّ من القرية فتلقي بما حملت  إلى أغنامها وتأتي صغارها تعدّ عشاءها وتسألهم عمّا صنعوا في المدرسة..كانوا كلّ عالمها وكلّ أحلامها ولا ترضى أن ترى  في وجوهم علامة الفقر أو اليتم وكانت تجتهد في إرضائهم وتنظر إلى صغار الأهل في لباسهم وتأتي لأبنائها بما يماثله أو يزيد وإنّها لتحزن كثيرا إن سألها أبناؤها شيئا لا تقدر عليه..تتوالى أيّامها متشابهات وينمو الحلم في الصغار مع نموّ أجسادهم وتكبر الأمّ ولكن لا تهزمها الأيام ولا تعجزها الحياة وكانت إذا اشتدّ بها التعب أياما أعانتها ابنتها البكر في ما كانت تعمل باقي أيّامها وقد يجود بعض الخيرين من أهل زوجها ببعض مال أو طعام ولكنّها ترفض فإذا ألحّوا في الطلب نهرتهم ..

الكبرياء بعض من قليل ورثته عن زوجها وتأبى إلاّ أن تورّثه إلى أبنائه فنلك وصيّته وإنّها تحملها حمل الآمانات فلا تنسى..

السنوات تأكل من جسدها ومن أغنامها فكلمّا اشتدّ بها الحال باعت بعضا من خرافها أو شياهها وإنّها لتدخل بيتها حزينة مذعورة تخشى القادم من الأيّام ولا تريد أنّ تحدّث أبناءها بحديث الجوع والحاجة..

كان ذلك قبل العيد بيومين وكانت ليلة مظلمة قاسية البرد ريحها شديدة عاوية ..أغلقت الباب والنافذة جيّدا وألقت ما في البيت من أغطية على صغارها حتى لا يتسرّب إلىهم البرد وأحذنها غفوة النوم حتّى كان الفجر..سارعت إلى تفقّد الزريبة فلم تر ذلك الخروف الذي أبقته لعيد أبنائها..فقط شاة واحدة جفلة في ذلك الركن ..دخلت الزريبة فزاد يقينها وعوت في صدرها الأوجاع..عادت إلى بيتها تترقّب نور الشمس الأوّل حتّى كان فسارت في كلّ سبيل واتّبعت آثار الأقدام لا تدلّها على وجهة وابتعدت في مسالك الرّعاة في الهضاب البعيدة فلا أثر..

لم تخبر صغارها وأعدّت لهم ما كانت تعدّه من طعام ولاحقتهم بأعينها حتى غابوا عنها في مسارب المدارس وعادت إلى بيتها وحيدة تقول نحيبا وتروي لنفسها حكاية الأوجاع..في صباح ذلك العيد تهيّا الصغار لذبح الخروف واقتربوا من الزريبة يريدون إخراجه فأشارت عليهم الأم بإخراج الشاة ودعت صغيرها إلى دعوة أحد الرجال من أقرباء زوجها لذبحها..لم تعد تسمع ذلك الرّجل وهو يدعو ابنها إلى مساعدته في ذبح الشاة ..ولم تعد تسمع حركة الشاة تطلب الحياة بعد ذبحها..فقط وجيف الصدر يحدّثها عن أيّام الجوع القادم ..

 

في المدرسة

- أحيانا الجروح الصغيرة تترك ندوبا عميقة وظلالا من الأحزان لا تخفى.

 رفعت بصري متأملا وجه صديقي القديم وهمست

- لم تكن جروحا صغيرة..فقط كنّا صغارا.

كنا صديقين متلازمين لا نفترقان إلا ليلا أو حين المبيت ..صباحا تأخذنا الطريق إلى المدرسة متعرّجة متثائبة ككل صباحات القرى..نشقّ معا سهولا وهضابا نتّبع سطور الصبّار حتّى إذا بلغنا المدرسة وسمعنا صيحات الحارس نندسّ في جموع التلاميذ التي جاءت بهم دروب القرية البعيدة وفجاجها.يصفّق الحارس بيديه من بعيد فيجتمع كلّ التلاميذ في صفين أمام قسمين تطوّع الرجال في تلك القرية ببنائهما فقد خيّر أبناؤهم ممن سبقوا هذا الجيل الانقطاع بسبب البعد ومشقّة السير إلى المدارس ..

حين يصطفّ التلاميذ متباعدين إناثا وذكورا يسير المدير محاذيا للصفوف فتنحبس الأنفاس في الصدور فإذا رأى إعوجاجا قوّمه بصفعة يتبعها تأوّه مكتوم ثمّ يختار فتاة وفنى من الصفيّن يرسلهما لدائرة اسمنتيّة يتوسّطها عمود حديدي ثمّ يأمر الجميع بالنشيد وعيونه لا تغادر الوجوه تبحث عمّن يتعلثم في القراءة..يرفع التلميذان العلم فإذا استوى في أعلى العمود صفّق الحارس مرّتين فيبستقبل المعلّمان التلاميذ في كلّ قسم.

ندخل القسم ثمّ نتّجه إلى ركن فيه لنختار مقعدين في آخره ثم نجلس وقبل الانطلاق في الدرس يشرع المعلّم يطوف بين الصفوف فيرفع التلميذ قبضة يديه مبرزا أظافره وتمرّ قبضة يد المعلّم فوق رأسه فإذا سمعنا أزيز المقصّ فوق رأس أحدهم علمنا أنّ ضحيّة من ضحايا القسم وقعت بين يديه فتأخذهما رغبة في الضحك ولا يضحكان خوف بطشه..

كان الطقس في ذلك اليوم ممطرا غاضبا في شتاء بارد قاس وفي ذلك الصبّاح دفعتنا الأمهات إلى المدرسة دفعا ولم نكن نريدها فالطريق وحلة والسير شقيّ ..سرنا في الطريق نحاذي كروم الصبّار ونتجنّب البرك وخنادق الماء تسيل تغمر الحفر فلا نراها وكنّا إذا انزلق أحدنا تمتدّ له الآخر تنقذه..ابتلّت ثيابنا وأحذيتنا وكنّا نشعر بالماء والوحل يتسرّب بين أصابع أقدامنا واشتدّ معها البرد حتى لا نكاد نحسّ ..طالت الطّريق إلى المدرسة وقلّ الكلام بيننا وإن كان فهو ارتجاف لا يكاد يبين حتى بلغنا ..الحارس ينهر من قدم التلاميذ ويدفعهم إلى خلع أحذيتهم قبل دخول الأقسام فتقع الأرجل الصغيرة على أرضيّة اسمنتيّة مدبّبة لبروز الحصى جامدة باردة فنرفعها قليلا بعد الجلوس على جانبي الطاولة فنشعر ببرودة الحديد القاسية.. يدأ المعلّم في طوافه بين الصفوف يتأمّل الوجوه الشاردة والأجسام المتلحّفة في بعض من ثياب مبلّلة ما تزال تنزف ماء ..ارتفعت قبضات الأيدي الصغيرة المرتعشة لا يقدر التلاميذ على جمعها وتفحّصها المعلّم ثمّ هوت العصا تزيد من الأوجاع وكان صوت وقوعها على الأصابع مريعا مخيفا ترتجف له الأبدان المرتجفة في الثياب المبللّة..

كنّا نجلس في ذلك الركن في المقعد الأخير توقّف قرب صديقي واخترق بيده شعره وهمهم بكلام لا يكاد يسمع ثمّ سمعنا صوت المقصّ يحفر أخدودا غائرا في رأسه ..تساقط الشعر على أرضيّة القسم وبعض منه على يديّ ثمّ سمعنا صوته هائجا يأمره بالوقوف..كانت ساقاه ترتجفان وصوته غائب في دموعه ..ما تزال ثيابه تنزف ماء ومايزال جسده الصّغير يرتجف بردا وخوفا ..وقف يكاد يسقط حين التفت إليه كلّ التلاميذ ورأى في أعينهم إشفاقا كبيرا ..أمره بالتقدّم إلى المصطبة الاسمنيّة في أوّل القسم ..تعثّرت خطواته وأقدامه الحافية ترسم أشكالا باكية ..نظر إليه ثمّ نظر إلينا جميعا وقال "هذا هو الدرس لهذا اليوم.." ثمّ دفعه نحو الباب يأمره بالخروج..

لا أعلم كيف جمعت قبضتي يدي وألقيت بهما على الطاولة فاهتزّ لصوتهما القسم واستدار نحوي مندهشا مستغربا وسار نحوي مسرعا فأسرعت نحو الباب وامتلأ القسم ضجيجا وأطلّ المدير من مكتبه وصار جميع من في المدرسة خارجا واقتفى الحارس آثارنا ملوّحا بعصاه يتوعّدنا بإعلام عائلتينا..

سرنا في كلّ المسالك نتحاشى النّاس ثمّ جلسنا في مكان بعيد نرقب المدرسة حتى إذا خرج التلاميذ وساروا في طرق العودة إلى ديارهم عدنا نطلب المغيب ولم يكن صديقي يحدّثني حديثه وإنّما شغله الصمت عن الكلام ..كان بيتهم وسطا في القرية وحين بلغناه ودّعته ثمّ أكملت المسير ..في طريقي إلى بيتنا كنت أسمع كلاما وصراخا يرتفع من بيت صديقي وكنت في خلوة من الطريق فآذنت لوجعي بالبكاء..

صباحا لم أجده كعادته في كلّ يوم ..ناديته ثمّ رفعت الصوت بالنداء..صوت أمّه الخافت يتعالى من البيت " إنّه مريض لا يقدر على المسير.."

أضحى ذلك الأمر عادة من عاداتي ..أتوقف قليلا عند بيته فتجيبني أمّه كعادتها "إنّه مريض لا يقدر على المسير.."

الآن..أعدت النّظر إلى صديقي القديم ..تأمّلت كرسيّه المتحرّك ..رفعت بصري نحو رأسه..الشعر أبيض خفيف والوجه مملوء بالندوب الصّغيرة..

احتضنه كثيرا كثيرا ..

أحيانا الجروح الصغيرة تترك ندوبا عميقة وظلالا من الأحزان لا تخفى.

محمد المولدي الداودي.