لا شيء يعدل حرمة الدم التونسي المسفوك في جبال الشعانبي
أو في الساحات والشوارع ولا عزاء للمكلومين والمألومين من الأطفال اليتّم والأرامل
والثكالى غير القصاص من القتلة المجرمين وحقّا لا أجد العبارة التي تناسب مقام
العزاء غير الترحّم على هؤلاء راجيا من الله العليّ القدير أن يتقبّلهم في فراديس
جنانه مع الشهداء والصدّيقين والأنبياء.
لاشيء أشدّ إيلاما من رسالة الدم في عيد الجمهوريّة وما
تلاه من أحداث القتل التي حيّرت أكثر الناس قدرة على التحليل الاجتماعي والسياسي
وأربكت أكثر الناس تفاؤلا بقدرة الشعب التونسي على صياغة مستقبله بعد الثورة التي
خطّها الشهداء من قبل .
إنّ المراقب للمشهد السياسي التونسي يدرك أمرا عجبا
تحوّل إلى ما يشبه الفعل النمطي والسلوك السياسي المألوف والذي يمكّن المحللين
السياسيين من الاستقراء والملاحظة والاستنتاج ومن هذه العلامات المتكرّرة هو هذا
التزامن المفضوح بين الجريمة السياسيّة والإرهابيّة وبعض المسائل المتعلّقة بمقتضيات
تحصين الثورة ومحاسبة الفاسدين وهذا التزامن يؤكّد حقيقة التوظيف السياسي للجريمة
والدم التونسي المسفوك في شوارع المدن المظلمة .
لقد خيّر بعض السياسيين العمل بعيدا عن ميادين السياسة
للاستثمار في الدم التونسي ليصعدوا إلى السلطة على الجماجم والأشلاء دون اعتبار
لحرمة ذلك الدم الطاهر ودون مراعاة لألام اليتامى والثكالى والحقيقة أنّ الأمر لا
يحتاج إلى كثير من الجهد التحليلي على تعقيدات الحوادث والأحداث.
كانت نتائج انتخابات 23 أكتوبر 2011 مفاجئة للبعض ومربكة
للكثيرين من السياسيين الذين روّجوا في أكثر من موقع إعلامي وعالمي أنّ حزب حركة
النهضة لن يتجاوز نسبة 25 بالمائة وبذلك سيكون مكوّنا سياسيّا بسيطا يمكن السيطرة
عليه وتطويعه وترويضه ولذلك انبرى بعض السياسيين الذين أربكتهم النتائج إلى الاصطفاف في معسكر المعارضة واستعادت
التيّارات اليساريّة والقوميّة عداءها الأيديلوجي القديم وتحوّلت وجهة الصراع من
صراع سياسيّ إلى صراع فكريّ تجاوز الأحزاب ليشمل منظّمات مهنيّة واجتماعيّة
وحقوقيّة كانت في كثير من الأحيان العصا الغليظة بيد تيّار فكري وسياسي معلوم.
لم تتمكّن الأحزاب المتوافقة على الحكم من الحسم في كثير
من الملفات في زمن ركود الدولة العميقة ومنها ملفّ المحاسبة وأرجأته انطلاقا من رهانات
سياسيّة أثبتت فشلها وأغرقت برامجها في وعود تنمويّة لم تكن تدرك صعوبة تحقيقها في
مرحلة انتقاليّة غلبت عليها الفوضى والانفلات الأمني والإعلامي وانتهاك سلطة
الدولة والتجرؤ على رموزها وعلاماتها حيث كان المواطن التونسي يختبر قدرته على
مغالبة سلطة الدولة بعد ستين سنة من القهر .
مكّن هذا التعثّر والارتجاليّة في ممارسة الحكم وبروز
مجموعة من التناقضات في مكوّنات الترويكا واختلاف التصوّرات السياسية لهويّة
الدولة والمجتمع على استعادة الدولة العميقة قدرتها على الفعل السياسي فكان حزب
نداء تونس الذي شكّل العنوان السياسي للدولة العميقة ومنه تشكّلت ملامح أخرى
للمؤامرة السياسيّة التي تجاوزت مجرّد الاحتجاجات أو الإضرابات وهي من صميم الفعل
الاحتجاجي للعائلة اليساريّة والقوميّة تجاوزته إلى أشكال أخرى عملت على عنصر
التخويف والترويع وتأكيد عناصر الانحلال الاجتماعي عبر تحلّل الروابط القيميّة
والهويّة المجتمعيّة للشعب التونسي فكانت ظاهرة حرق الزوايا وظاهرة الاغتصاب في
رياض الأطفال ثمّ كانت جرائم الاغتيال السياسي والعمليّات الإرهابيّة في أكثر من
موقع في البلاد التونسيّة.
لا أحد ينكر تعثّر تجربة الحكم ما بعد الانتخابات لعدّة
أسباب لعلّ أهمّها الارتجاليّة الملوّنة بسذاجة سياسيّة ظاهرة ومنها كذلك تعدّد
المطالب الشعبيّة وتنوّعها فهي أحيانا مطالب تنمويّة اجتماعيّة في المناطق
الداخليّة المهمّشة وهي مطالب سياسيّة في المناطق الساحليّة المرفّهة وهي مطالب
حرّيات للنخب الحقوقيّة والسياسيّة فكان أداء الحكومة مشتّتا بين هذه المطالب دون
القدرة على تحقيقها تحقيقا كليّا ولذلك ارتفعت شعارات فشل الحكومة وعجزها على
التسيير وإدارة شؤون الحكم والبلاد .
من بين ثنايا الارتجاليّة والتعثّر والارتعاش سار المتآمرون
على الوطن والشعب والمتربصون بالثورة والتجربة الديمقراطيّة وتجاوزوا كلّ الخطوط
الحمر وحوّلوا الدم التونسي الطاهر إلى عنصر متاجرة ومزايدة وسلعة سياسيّة غالية واستعادوا
تجاربهم القديمة في التعامل المخابراتي واستغلّوا الوضع الدولي والإقليمي الذي رفع
شعار الانقلاب على ثورات الربيع العربي التي هدّدنا بعض الساسة الروس بأنّها
ستتحوّل إلى خريف بارد وقاتل .
من بين صرخة الوجع والغياب ومن بين لوعة الفراق والوداع
تعلو شعارات السياسة قبل لفظ العزاء وينادي تجّار الدم بسقوط الحكومة ومؤسسات
الدولة في إطار فجاجة سياسيّة وسقوط أخلاقي رخيص ويتبدّى المنقذون في زمن الهزيمة
ويستعيد الإعلام المعبّر عن القتلة بلغته مومياء السياسة التونسيّة متلفعا بالسواد
فيقول قوله بعيدا عن حجم المصيبة .
لا أحد يستطيع إنكار هذا العقل الذي رسم مسارات النهاية
لثورات عربيّة داهمت عروش الملوك والسلاطين والطغاة المتجبرين وأكّدت في لحظة
تاريخيّة وملهمة قدرة الشعوب العربيّة على الحياة والكرامة والحريّة ولم يكن
المشهد المصري المليء دما وقمعا ببعيد عمّا أراده القتلة في عيد الجمهوريّة وعمّا
أراده المتآمرون للشعب التونسي وثورته ذلك أنّ الرمز شفّاف ومفضوح ولهذا الشعب
العظيم القدرة على إدراك مغاليقه وخفاياه ذلك أنّ اختيار الشهيد الحاج محمد
البراهمي يعيد الثورة إلى مرابعها الأولى أي سيدي بوزيد فيحلّ الشهيد مكان الشهيد محمد
البوعزيزي مع اختلاف الزمن والغاية لقد كان القتلة ومن يقف وراءهم يدركون "
الجينة الثوريّة" التي كوّنت النسيج الاجتماعي والنفسي للجهات الداخليّة مثل
القصرين وسيدي بوزيد وقفصة ومدن الجنوب ولذلك حاولوا تحريك هذه المناطق لأنّها
مثّلت عبر التاريخ التونسي الحديث والمعاصر مناطق تثوير سرعان ما تنتهي نتائجها في
الحواضر وقصور الملوك والزعماء.
كان الحدث صادما وفاجعا لا يتحمّله الوجدان التونسي الإنساني
والبعيد عن مشاهد الحرب وقسوتها ولكنّ الخطورة كل الخطورة في انحدار الصراع
السياسي هذا المنزلق عبر هذا التداخل بين الفعل السياسي المعارض والجريمة
السياسيّة والفعل الإرهابي ولئن كنّا لا ننكر وجود جماعات إسلاميّة جهاديّة في
تونس فإنّنا نؤكّد أنّ جوهر التحليل السياسي لا يمكن له إغفال وضع هذه الجرائم في
خانات السياسة ومستنقعاتها ولا ننسى استعارة التجارب السياسيّة الأخرى التي كانت
فيها المخابرات فاعلا أساسيّا ولاعبا في ميادين السياسة ولنذكر أنّ كثيرا من أسرار
الحكم في الشرق والغرب كانت ملوّنة بألوان الدم دم المواطن البسيط الذي يساوي موته
في معادلة السياسة والحكم أكثر بكثير من وجوده حيّا والمشهد الجزائري في التسعينات
لم يفارق الذاكرة السياسيّة حين كان الجنرالات وضبّاط الأمن يقتلون أبناء الشعب
البسيط ويلقون بهم في الغابات ويحمّلون وزر الفعل والجريمة للجماعات الإسلاميّة.ولعلّ
الراغبين في استعارة المشهد المصري بآليّاته الخليجيّة والغربيّة والمال الفاسد
وتحالف الدولة العميقة مع تيّارات شبه ثوريّة والأعلام التابع للرموز القديمة لم
يدركوا خصوصيّة الواقع التونسي ولم يدركوا حجم الوعي السياسي التونسي الذي أكّد في
أكثر من مناسبة تمسّكه بالثورة ومساراتها.
حين تفقد السياسة أخلاقها تتهاوي تلك الحواجز الفاصلة
بين الجريمة والفعل السياسي وحين تشتدّ شهوة السلطة يتحرّر البعض من ذلك الضمير
الإنساني ويتخلصون من ضوابط الأخلاق ويحوّلون دماء شعوبهم إلى سلع غالية يتاجرون
بها في أسواق السياسة.
الذين يسوقوننا إلى ميادين الفوضى لن يجدوا غير لون الدم
وسوف يكونون حفظة لأعداد القتلى ولذلك فإنّني أرى أنّ الحفاظ على مؤسسات الدولة
رغم ضعفها وهوانها أفضل بكثير مما يدعوننا إليه وحتما سوف يذكر التاريخ في لحظة
اعتراف أنّ أكثر الناس بكاء على الشهداء هم القتلة وسوف يذكر كذلك أنّ المراهنين
على تجارة الدم لن يجدوا في النهاية غير الخسران وأنا على يقين قاطع أنّ هذا الشعب
العظيم قادر على كشف الجناة وهواة المتاجرة بالألم والدم .
تحيا تونس يحيا الشعب التونسي العظيم يحيا الجيش الوطني
وكل حرّاس الوطن
الخزي والعار لكل الخونة والعملاء
المجد والخلود للشهداء
محمد المولدي الداودي
من قلعة الشهداء وحرّاس الوطن القصرين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق