التمهيد:كان حديث الطين إرهاصا قدّم لملمح من ملامح التحوّل في مسيرة البطل الوجوديّة فقد استفاق فيها أبو هريرة في شدّة عزلته ووحدته على رؤيا "فرأيت في منامي رؤيا لم أر قطّ مثلها رأيت بلدا غريبا أهله حينا كالنمل وحينا كالفيلة وهم يعجنون طينا ويجعلونه حجرا على الحجر فيتّخذون صروحا.." وتمثّل هذه الرؤيا تشكيلا جماليّا لتجربة العمل والتي ستدفع أبا هرؤيرة لخوض مغامرة الجماعة ( تجربة الععد وتجربة العمل).
-نظام النصّ: قدّم المسعدي لتجربة الجماعة (العمل) بحديثين "حديث
الكلب" و"حديث العدد" واتفق الرّاوي في الحديثين (كهلان)
"وكان من صعاليك العرب وشداد لصوصها" وقد خصّ المسعدي تجربة الجماعة
ببناء حدثيّ مخصوص فقد كانت النهاية ومآلات التجربة (الفشل) هي نواة البدء في خبر
أبي هريرة ففي حديث الكلب تيه آخر وبحث عن موطن رحلة جديدة بعد أن تذوّق أبو هريرة
مرارة الفشل مرّتين (تجربة الحسّ وتجربة الجماعة) فكان النصّ مراوحة فنيّة بين
الإجمال والتفصيل والإلغاز والتفسير على نحو من نسج الحبكة وتعقيد المغامرة فقد
أوقع الراوي بطل الرواية في متاهة الفعل مراوحة بين اتصاله بالجماعة وانكفائه عنهم
(الفشل باعتباره أسلوبا روائيّا ورؤية وجوديّة).
- في مستوى بناء الأحداث: يقوم بناء الأحدث وترتيبها على جمع من الثنائيّات
تشكّل في المغامرة عناصر الصّراع والصّراع في الرواية الذهنيّة عنصر فني أساسي في
تشكيل شخصيّة البطل الوجودي وفي بناء المغامرة الوجوديّة حيث يتعلّق مبدأ الصراع
بشخصيّة أبي هريرة من خلال تعدّد علاقاتها وتنوّع رغباتها وتناقض أفكارها
ومعتقداتها واختلاف مساعيها فقد كانت شخصيّة أبي هريرة مزيجا من نقيض تغويه الرغبة
فتدفعه إلى الفعل فإذا بلغه أو كاد انثنى عنه يطلب بعدا آخر من أبعاد الذات
والوجود فإذا اقترب من تحقّقا أفناه كان دائم الرحلة كثير الترحال لا يستقرّ في
أرض ولا يطمئنّ بمكان قلق مريد لا تقنعه صورته ولا تؤنسه فكلّما استوت حرّكتها
حيرته وسؤاله فتغيّرت طلبا لمعنى آخر وتجربة جديدة وهذا دأب البطل الوجودي يرتاد
المعنى والفعل فإذا بلغه أدرك زيفه وانجذب إلى وجه آخر من وجوه الوجود والحياة
..كانت الحقيقة ظالّته (غايته) فأضّلته وشرّدته في متاهات المعاني وتناقضات الكيان
وفي تجربة الجماعة كانت الشخصيّات صورة للمجتمع الذي يصهر الفرد ويذيبه فيتخلّى عن
كيانه المفرد ووحدانيّته المميّزة.
- الصّراع بين الشخصيّات: تكتسب الشخصيّات في رواية حدّث أبو هريرة
قال..أبعاد ذهنيّة رمزيّة فهى علامات للمغامرة وعناوين للتجارب على اختلافها
وتنوّعها وبذلك تكون الشخصيّات في الرواية وجوها مختلفة لذات أبي هريرة وهي أبعادة
المتصارعة المتناقضة المتعدّدة فكأنّها المرايا المتعاكسة كلّما واجهتها ذات البطل
إلا وكشفت بعدا خفيّا من أبعادها..كما تكتسب الشخصيّات في الرواية أبعادا فنيّة
روائيّة تكون فيها الشخصيّات أدوات أسلوبيّة لتأكيد عنصر الصراع وتحقيق التوتّر
السردي وخلق نواة سرديّة للعقدة ولذلك تختصّ الشخصيات في هذا الإطار بواقع روائي
منفصل عن الشخصيّة الرئيسية فلكل شخصيّة في الرواية مغامرة تؤكّد حضورها بعيدا عن
حضور بطل الرواية.
- للصراع في رواية حدّث أبو هريرة قال وجهان:صراع داخلي يمزّق الذات أشتاتا
حين تدرك تردّدها بين العدم والوجود والخواء والامتلاء والحيرة والاطمئنان والجهد
والسكون وصراع خارجيّ بين بطل المغامرة وبقية شخصيّات الرواية ويجسّد هذا الصراع
البعد المأساوي في شخصيّة أبي هريرة ( مرض الرّحيل).
* ملامح الفشل في تجربة الجماعة: استعاد أبو هريرة صلته بالناس وأقبل عليهم
إقبال النبيّ على قومه حاملا رسالة العمل " خرجت أريدهم على البناء وأن
يتعاونوا ويطلبوا الشدّة والبأس.." ولقد غيّر أبو هريرة مجتمعه وألغى نزوع
النّاس إلى الشرّ وأنشأ الحضارة فإذا هي كالجنّة يردها الناس لا يبتغون
الآخرة." فدعوتهم إلى نخيل معاجيل كارعات وأنهار جارياتوأفنان وظلال وإطلاق
حال وخيرات جذال.."غير أنّ طبع الإنسان لا يتغيّر ونوازعه لا تمحى وغريزته لا
تفنى فصاروا إلى القتل كما كانوا وانتهى أبو هريرة يائسا من الناس كارها للجماعة
" أيّها الملأ اسمعوا إنّي وجدتكم كالكلاب على جثّة عفنة.."
- التحم أبو هريرة بالجماعة ودفعهم إلى الفعل والخلق إلاّ أنّه اكتشف فيهم
أسباب العلّة وزيف العمل وخوائه فإذا هم إلى العدم أقرب وأيقن منهم الخيبة والفشل
ينتظرون أن يطعموا ويدعون إلى الفعل فلا يستجيببون " تكتفون بالصدقات وتنامون
والنعمة لا تدوم بالعطاء..".
- مظاهر فشل أبي هريرة في تجربة الجماعة (العمل): للجماعة (العدد) في رؤية
المسعدي الوجودية صورة سلبيّة استلهمها من الوقع التونسي زمن كتابة الرواية
فالجماعة مثل للخضوع والاستسلام والتهاون لا يقدرون على شيء ولهذه الصورة خلفيّة
فلسفيّة فكريّة مرتبطة بالفلسفة الوجودية الغربية فهي تمثيل لصورة القطيع (فلسفة
القوّة) وهي صورة الجحيم (الآخر هو الجحيم) فلا يتحقّق كيان الإنسان في فلسفة
المسعدي إلاّ حين يرتدّ إلى ذاته ويلغي الآخر فالجماعة عقبة أمام مسيرة الفرد
وإرادة تأصيل الكيان ولم تكن رغبة التغيير التي قادته إلى النّاس إلاّ رغبة ميته
قبل أن تخلق ذلك أنّ أبا هريرة حملهم على الفعل ولم يعلّمهم طرائقه وألقى لهم
بالجنّة ولم يعلّمهم خلقها فكان فشله في تجربة الجماعة كفشل الأنبياء يأتون الناس
الرّساتلة بلا وحي ولا كتاب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق