التمهيد: يمثّل "حديث الوضع" انعراجا في المغامرة الوجوديّة لأبي
هريرة حيث انتهت تجربة الحسّ وأفضت إلى معاودة سؤال المعني وتبدّت في المغامرة
نوازع الحيرة من جديد وذهب عنه الاطمئنان فقد جرّب الجسد فأدرك زيفه فليست اللذّة
إلاّ بابا من أبواب الخداع وزيف يظنّه الإنسان حقّا فإذا جرّبه كان أوهى من الوهم
وأهون من الظلّ لا يبقى ..استفاقة جديد يتجدّد فيها سؤال الوجود وتتجدّد فيها رحلة
البحث عن المعنى فألقى ريحانة بعد حملها تخفّفا وتحرّرا من سطوة الجسد وسلطة
الشهوة وكذلك دأب أبي هريرة في الرواية ما إن يطمئنّ إلى المعنى يدركه حتى يكتشف
زيف ما بلغ فيعاوده ذلك السؤال وتدعوه سبل التجارب إلى ارتيادها على نحو من
المغامرة الدائمة والمجاهدة الدائبة والرحلة المستمرّة التي لا ينقطع فيها الرّحيل
ولا ينتهي فيها البحث إلى معنى ينقضي به سؤال الوجود وفي كلّ تجربة تظلّ الشخصيّات
والأماكن والأزمنة والأحداث تحمل أثاره وتدلّ على مروره شواهد في النصّ والمغامرة
كان أبو هريرة في الرواية بطلا يرتاد المكان ولا ينزله ويشرع في التجربة ولا
يتمّها ويسلك السبيل ولا ينهيها وذلك دأبه وأمره يرى في الوجود نيّة فعل لا يرغب
في انتهائها حتى لا تذهب بلذّة المحاولة " إنّك أذا أتممت الفعل فقد
قتلته..".
الموضوع: انفصال أبي هريرة عن ريحانة والشروع في تجربة جديدة.
المقاطع: النصّ وحدة تامّة.
|
|
حديث الوضع: أسباب الرّحيل: "فلمّا تغيّر أبو هريرة ورأيته يتجمّع وأصبح مستحيلا عليّ
واختلفنا.." نظام الزّمن في الرّواية: |
- هو حديث يتلو حديث الحسّ حين اكتشف أبو هريرة خواء الجسد وفناء الشهوة
وأدرك أنّه علّة الإنسان وداؤه وانتهى إلى حكمة الوجود "فلا تكون الحياة
أبدع ممّا تكون بين العدم والكيان.." وقال أيضا " وددت من زمن بعيد لو
أنّي علّقت بين السّماء والأرض أو أنّي حبست على قمّة الجبل وقد طلّقته الأرض
فطار..". أجمل هذا الحديث رؤية المسعدي الوجوديّة فلا يكون الوجود إلاّ تردّدا بين
بعدين وسفرا بين كيانين فالحياة كون واستحالة ومأساة. - يمثّل حديث الوضع مرحلة الانفصال عن ريحانة وذلك دأب أبي هريرة في
تجاربه اتّصال يعمّق التجربة ويبلغ بها منتهى الفعل وأقصاه ثمّ سرعان ما يستحيل
فشلا يؤوول إلى انفصال ولم تكن الشخصيّات في الرواية إلا وجها من وجوه أبي هريرة
في تعدّده وتقلّبه وهي كذلك ملمح من ملامح أبعاده المتناقضة وكلّما فني بعد من
الأبعاد فيه كلّما فنيت في الرواية شخصيّة أو مكان له اتصال بالتجربة ودلالاتها
الوجودية ولذلك غيّب المسعدي ريحانة عن فضاء المغامرة فقد صارت عبئا لا يقدر أبو
هريرة على تحمّله فأسقطه وإن كان على عسر منه ومشقّة" فلم يكن أشدّ من وضعي
لريحانة وضعتها كما تضع الحامل المعسر". - الاختلاف في التجربة الوجوديّة انفصال عن شروط الفعل أو علاماته وكانت
ريحانة في المغامرة علامة من علامات التجربة الحسيّة والاختلاف كذلك فعل مساءلة
للتجربة ورهاناتها ونهاياتها وقد لاح لأبي هريرة خواء تجربة الحسّ فاستفاق أبو
هريرة على زيف المعنى وخواء الكيان واختار سبيل الرّحيل مجدّدا وعلى نحو من
أساليب البيان كانت ريحانة لأبي هريرة بيتا يسكنه فملأ كيانه سكونا حتّى ضاق به
" ما الرّالحل بك؟ قال: كره البيوت".كانت ريحانة ثباتا يشدّ أبا هريرة
فيثنيه عن المسير وكانت قرارا أفنى في وجدانه فتنة الترحال وهاجس السؤال "
فأدركت أنّه قد عاوده الجوس " تحوّلت ريحانة في
مسيرتها مع أبي هريرة جنّة خصيبة وصورة للمتعة يلقاها أبو هريرة بلا جهد ولا طلب
فافتقدت قيمتها الوجوديّة ولاحت أسرارها وتجلّى غموضها واستوعبت كثيرا من صفات
المرأة في صورتها التراثيّة (الفتنة والمتعة) والاختلاف بين أبي هريرة وريحانة
اختلاف في الرؤى الوجوديّة فقد أيقن أبو هريرة أنّ ريحانة إلى زوال وفناء فانقطع
عنها لكي لا ينقطع رحيله أو يتعطّل مسيره ( المسيرة الوجودية ورحلة البحث عن معنى
الوجود..). يكتسب الوجود قيمته
ويحوز معناه في رؤية المسعدي الوجوديّة من استمرار الفعل لا انقطاعه وفضل
الإنسان في جهده الدائب ومجاهدته الدائمة وهو جهد مستمرّ لا تعنيه النهايات ولا
يمنعه الفشل "لقد كان التوق إلى الشمس دائم الخوف من طلوعها..". يقول أبو هريرة في حديث الوضع" دعيني يا هاته فقد كدت أن تقطعي عنّي
سبيلي.." " أو كلّما تمرّد شيطان في إنسان قامت له إمرأة نبيّة أو
كلمّا قامت في قلب أعاصير جعلته النّساء خطوطا مستقيمة.." + لئن تخيّر المسعدي شكلا تراثيّا أنزله الرواية مثل الخبر أو الحديث فقد
كانت رواية حدّث أبو هريرة قال..نصّا روائّيا حديثا يختلف عن الخبر القديم
اختلافا بيّنا (عدّة مظاهر): * الرواية فعل متخيّل رغم جهد المسعدي للإيهام بالواقعيّة شخصيّات
روائيّة وأمكنة وأحداث أمّا الخبر ففعل محاكاة لواقع متحقّق. * وحدة البطل: فقد كان أبو هريرة بطل الرواية ومحور المغامرة تنشدّ إليه
الأحاديت وتتّصل به الأخبار وتحيط به الشخصيّات وهو في الرواية أصل ثابت تتعدّد
ظلاله (الشخصيّات) وكان صوتا مفردا تتنوّعد أصداؤه وكان خيطا ناظما لكل الأحاديث
على اختلافها وتنوّعها. * الرّاوي المضمر أو الرّاوي الخفيّ: رغم عودة المسعدي إلى الأشكال
التراثيّة القديمة (الخبر والحديث) فقد كان فعل الرواية متعلّقا براو خفيّ يخرج
عن متن النصّ ويقع في هوامشه وهو ذلك الصوت الجامع ما بين فعل الحكاية (الكتابة)
وفعل القراءة وهو حلقة أفناها المسعدي وألغى أثارها تمويها على القارئ وإيقاعا
له في شرك القراءة عبر تداخل الأجناس وتعدّد الأصوات. * كسر خطيّة الزمن الروائي عبر أسلوب الرجع والسّبق: فالأحاديث لم تتّبع
خطّا زمنيّا متتابعا بل لقد خضعت في ترتيبها لنظام روائيّ أفقدها تتابعها كما في
زمن المغامرة (الخطيّة الزمنيّة) فقد ورد في حديث المزح والجدّ ما يشير إلى
معرفة ريحانة لأبي هريرة قبل حديث التعارف في الخمر وحديث القيامة كما استبق
الراوي (السبق) كل المآلات وكشف معالم النهاية ( وهي يومئذ قد ضرب الشيب في
رأسها..) أمّا نهايات الأحاديث فعلامة من علامات السبق (رحم الله أبا هريرة..)
وهذا ضرب من كشف النهايات فإذا أبو هريرة في الرواية صورة عن حيّ هو أقدر ما
يكون عن الفعل وصورة ةعن ميّت هو أعجز ما يكون عليه. بعدان من أبعاد الإنسان
يتناظران في الرواية على نحو من صنيع الحبكة الروائيّة وخلق توتّر سردي يتجاوز
رتابة البناء الخطّي للأحداث" فتظهر الحركة السرديّة المتحكّمة في نصّ
"حدّث أبو هريرة قال.." وجه آخر من وجوه اتصاله بطبيعة النصوص
الروائيّة إذ طوّر الراوي المضمر الأحداث بالنزوع إلى تفريعها وإثارة قضايا
أساسية وقضايا ثانويّة موصولة بها ونسج حبكات متوازية حينا ومتشابكة أحيانا أخرى
وتلك الخصيصة هي التي تمكّن الرواية من قطع مراحل حاسمة والتدرج بها حتى تبلغ
النهاية المرصودة من دون أن تباغت القراء ويمكن لنا أن نثبت تحكّم ذلك العنصر
الروائي في متن كتاب المسعدي بالإشارة إلى أطوار علاقات أبي هريرة بريحانة وظلمة
وأبي رغال ورصد مظاهر اليأس بعد فشل كل تجربة من التجارب الوجوديّة .." إنّ ترتيب الأحاديث قد دلّ على أنّ الراوي قد أعرض عن إخضاع الوحدات
السرديّة لنظام زمنيّ تعاقبيّ حرصا منه على بثّ التوتّر في حركة السرد وضبط
العوامل الفاعلة في مواقف الشخصيّات ( حديث المزح والجدّ ,حديث الحاجة ويعود فيه
الراوي إلى طفولة أبي هريرة وصباه وهو الحديث رقم عشرة..) * وجود شبكة من العلاقات بين الشخصيّات متداخلة ومترابطة وفق ثنائيّة
الاتصال والانفصال وضمن تنوّع العلاقات بين الشخصيّات يتجلّى البرنامج السردي
لشخصيّة البطل في مغامرته الوجوديّة. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق