المشاركات الشائعة

الجمعة، 29 أبريل 2022

لدرس العاشر: هذا ما كنت أطلب

https://docs.google.com/document/d/1DY8U9stSniwsp0BjIjSlfuhBouSgSpt2fBUpAvdPCfU/editا

التمهيد: صعودا إلى جبل حزيز كانت رحلة أبي هريرة في حديث البعث الآخر شوقا للمطلق وتوقا للغيب والأبد وفي الرحلة يطلب البطل التعالي والتسامي هروبا من المادّة والأرض وعتقا للروح وتكتسب النهاية في أعمال محمود المسعدي الأدبيّة الوجوديّة ميسما خاصّا يميّزها عن الكتابات الوجوديّة في الغرب حيث ينتهي البطل عدما منسيّا فالنهاية في كتابات المسعدي شكلّ من أشكال التطّهر عبر الالتحام بالغيب وإدراك المطلق ولذلك استوحى المسعدي في حديث البعث الآخر الأبعاد الصوفية (التصوّف) لغة وإشارة ورمزا وتجربة فكان النصّ احتفالا بالموت أو إشراقا صوفيّا في لحظة حلول في ذات أسمى وفي النصّ مفارقة بين موجود يتشكّل في المغامرة عناصر روائيّة كالفضاء المكاني أو الزمانيّ (الجبل الحزيز,شدّة الظلام,الأفق الغربي, بقايا نور تائهة..) وهي عناصر روائيّة تؤكّد فشل البطل في كلّ تجاربه أو تردّده بين التجربة والخيبة والرغبة والمحنة والفعل والفشل والاختبار والانكسار والإمكان والمستحيل وهذا من صميم مأساته أمّا منشود البطل في نهاية المغامرة فإطلالة على المطلق الغيبي وإكساب للموت معنى الحياة أو الحقيقة الكليّة واليقين الثابت.

+استلهم محمود المسعدي في حديث البعث الآخر الخطاب الصوفي (خطاب المتصوّفة) وله في النصّ بعدان:

1- البعد الإيقاعيّ الاحتفالي:كان حديث البعث الآخر مزيجا من النثر والشعر فكان الشعر صوت الغيب يتلقاه أبو هريرة هاتفا من السّماء فيردّده على نحو من ترجيع الصّدى للصوت كترجيع الأنبياء للوحي وكان كتلبية المؤمن المقبل على الحقّ واليقين.

2- كان النصّ الشعريّ في حديث البعث الآخر زاخرا بالعبارات الصوفيّة (الحبّ,الحقّ ,الشوق,الضياء,سرّي,ستري,الغيب,خفايا الرّوح,شواطئ الأزل..).

          يكتسب هذا النصّ (حديث البعث الآخر) بعدا احتفاليّا يحتفي فيه بطل المغامرة الوجوديّة بالموت والغيب فيستحيل (يتحوّل) الموت من حدث عدمي يمثّل نهاية الوجود أو الفناء (العدم) إلى فعل وجوديّ يشكّل دائرة الحياة ويعيدها إلى بداياتها (دورة الحياة والموت والبعث) ويرسم علامات اليقين الكلي والحقيقة المطلقة وفي نهاية أبي هريرة رؤى ومواقف متعدّدة تعدّد القراءات والتأويلات (تقييم النهاية):

1- هل كانت النهاية في رواية حدّث أبو هريرة قال تأكيدا لفشل البطل في كلّ مغامرته الوجودية وإقرارا بعجزه عن نحت كيانه وإدراك معنى وجوده وسرّ حياته وهل كانت النهاية انهزاما أمام سطوة الوجود وتحقيقا للعب والعدم (الحياة عبث).

2- هل كانت النهاية (المأساة) انتصارا بلغ به البطل منتهى الرّحلة ومبلغ المعرفة الإنسانيّة وأدرك من خلالها يقينه وحقيقة وجوده ومعنى حياته (الحقّ) ولذلك كانت صورة النهاية معبّرة عن تفاعل كونيّ( فأسمع حوافره على الصخور كالرعد,وغاب عني في الليل, وصيحة كصيحة الفرح..)

3- تمثّل النهاية اختيارا وجوديّا وتعبيرا عن إرادة البطل الذي اختطّ لذاته مسلكا وأصرّ على السير فيه لا يبالي بالعراقيل ولا تثنيه المصاعب ولذلك كانت النهاية في الرواية ميسما من مياسم البطل الوجودي المريد الذي يحمل قدره بيديه ويندفع في الوجود مغامرا تدفعه رغبة إدراك الحقيقة واكتساب المعنى لا ينثني حتى يدركه الموت أو اليقين وللموت في الرواية الوجودية صورتان:صورة الاستسلام للعادات والقيم الجماعية والخضوع لإرادة غير إرادة الذات ولذلك كانت مغامرة أبي هريرة وتمرّده وثورته في حديث البعث الأوّل شكلا من أشكال الانبعاث ومعاودة اكتشاف الوجود واستكناه معناه وله في حديث البعث الآخر صورة فلسفية دينية يمثّل فيها الموت استفاقة جديدة وإطلالة على عالم آخر لا يدركه الإنسان إلا صفاء مطلقا وتحرّرا كاملا من الأرض والجسد والناس هي إطلالة على عالم الغيب وضفة أخرى من ضفاف الوجود الإنساني (شواطئ الأزل) ولذلك كانت النهاية حدّا فاصلا بين رحلتين رحلة أولى اختطّها أبو هريرة وسلك مسالكها وطاف في أنحائها وجرّب ثناياها متردّدا بين الفعل والخيبة والإرادة والارتداد والإقبال والانكفاء والإمكان والاستحالة والوجود والعدم والحياة والعبث ورحلة ثانية كانت النهاية ملمحها في حديث البعث الآخر وشكّلت انعتاقا من سلطة الزمان وتحرّرا من سطوة المكان فكانت النهاية التحاما بالأبد والتقاء بالخلود على نحو من فعل المتصوّفة وعشّاق الحقيقة وأصحاب المقامات.

الغموض في النهاية:أساليبها ودلالاتها:

* الأساليب: العجائبي (ثنائيّة الصوت والصدى) كان دافع أبي هريرة إلى رحلة الفناء هاتف من هواتف السماء والغيب كأنّه صوت الكون أو دعوة الخلود وترجيع الأبد ولذلك كانت لغته من لغة الدهر والزمان في إيقاعها ومعحمها ثمّ سرعان ما يرتدّ الصوت صدى (فأسمع أبا هريرة يغنّي..) على نحو من التماهي والتعانق بين الذات والكون فيستحيل أبو هريرة طيفا من أطياف الوجود يغريه الأبد والغيب فيقبل عليه إقبال المريدين والعبّاد "وأرسله كالريح وغاب عني في الليل..".

* البنية التركيبيّة: وتقوم على التمثيل والتشبيه والاستعارة والرمز (أرسله كالريح,صهيل ألم, صيحة كصيحة الفرح, مأدبة شياطين..) وفي نهاية الحديث ما يختزل مغامرة أبي هريرة وتجاربه دعاء يفيض بالدلالات كما فاض أبو هريرة عن الحياة ووجود أراد أن يستقصي معانيه فتجاوزه منشدّا إلى المطلق وفي صيغة التفضيل (أعظم) ما يدلّ على أنّ مسيرة البطل رغم تردّدها بين أبعاد متنافرة ومآلاتها الفاشلة تمثيل رمزي وروائي لعظمة الإنسان يختطّ مسلكه في الوجود وينحت كيانه مجاهدة ومكابدة وفعلا مستمرّا لا ينقطع وفي مغامرة أبي هريرة ونهايته تتجلّى رؤية محمود المسعدي الوجوديّة فالحياة فعل دائم وجهد لا ينقطع وخلق مستمر وإرادة متجدّدة لا ينهيها فشل ولقد أجمل المسعدي هذه الرؤية والحكمة في قوله "وإنّ كلّ كيان لجهد وكسب منحوت".

* في الرواية مغامرة وجود ومغامرة كتابة فقد سلك المسعدي في الرواية مسالك فنيّة فريدة طريفة ومبدعة ففاضت عن حدود الجنس الروائي وتعريفات الكتابة واتجاهاتها واستوحت كلّ فنّ واستوعب كلّ نصّ وامتدّت في آفاق الإبداع زمانا ومكانا عودا إلى التراث العربي وانفتاحا على التجارب الروائيّة الغربيّة الحديثة فكانت نصّا جامعا فيه الحديث والخبر والسيرة والرواية والملحمة والحكاية والشعر والآية والحكمة والأسطورة والقرآن والإنجيل والمقامة والرحلة وعجيب نصّ المسعدي غوامضه وتعدّد روافدة وتنوّع أصوله واختلاف منابته وطريف النصّ معنى يتجدّد بتجدّد القراءة فكأنّه بعث جديد. 

ليست هناك تعليقات: