المشاركات الشائعة

الثلاثاء، 19 أكتوبر 2021

 

العيد

كان ذلك آخر ما تبقى ..وأشارت إلى واحدة يتبعها خروفان في ركن من زريبة اجتهدت في رصّ أخشابها وملء ثغراتها بأشواك شجر السدر حتى لا تجوزها الذئاب من الناس والحيوان..دخل التاجر ومعه  ثلاثة من أبنائها وأحاطوا بأحد الخروفين حتى تمكّنوا من مسكه ثمّ ألقوا به في عربة السيّارة وقبل أن يأخذ التاجر مقعده  سألها أن تبيع له الثاني ولكنّها رفضت وهي تقول "ذلك هو عيد أبنائي"..

..ما تبقى هو كلّ ما ترك زوجها الرّاحل منذ خمس سنين ..عشرة أغنام أو يزيد قليلا أكلتها السنوات الخمس كما أكلت من عمرها حتى لم يعرفها الناس وكانت إذا سئلت عن تغيّر حالها وذهاب شبابها نظرت مزهوّة إلى أبنائها الثلاثة وفي صوت يملؤه الفخر أجابت "هؤلائي جنّتي وشبابي وفرحتي.."

ترك لها ثلاثة من الأبناء وبيتا صغيرا في أقصى القرية اجتهدا معا في جمع حجارته وبنائه وكان جنّتهم إلى حين..ترك لها كثيرا من الذكرى والأحلام الشاردة كالغيوم تسوقها الريح بلا وجهة فهي كالأقدار تسوق النّاس والأعمار..

كانت تشتغل طول يومها في البساتين المنتشرة في السهول وتجمع في عملها قليلا من عشب فإذا كان الغروب سارت حيث ذلك البيت القصيّ من القرية فتلقي بما حملت  إلى أغنامها وتأتي صغارها تعدّ عشاءها وتسألهم عمّا صنعوا في المدرسة..كانوا كلّ عالمها وكلّ أحلامها ولا ترضى أن ترى  في وجوهم علامة الفقر أو اليتم وكانت تجتهد في إرضائهم وتنظر إلى صغار الأهل في لباسهم وتأتي لأبنائها بما يماثله أو يزيد وإنّها لتحزن كثيرا إن سألها أبناؤها شيئا لا تقدر عليه..تتوالى أيّامها متشابهات وينمو الحلم في الصغار مع نموّ أجسادهم وتكبر الأمّ ولكن لا تهزمها الأيام ولا تعجزها الحياة وكانت إذا اشتدّ بها التعب أياما أعانتها ابنتها البكر في ما كانت تعمل باقي أيّامها وقد يجود بعض الخيرين من أهل زوجها ببعض مال أو طعام ولكنّها ترفض فإذا ألحّوا في الطلب نهرتهم ..

الكبرياء بعض من قليل ورثته عن زوجها وتأبى إلاّ أن تورّثه إلى أبنائه فنلك وصيّته وإنّها تحملها حمل الآمانات فلا تنسى..

السنوات تأكل من جسدها ومن أغنامها فكلمّا اشتدّ بها الحال باعت بعضا من خرافها أو شياهها وإنّها لتدخل بيتها حزينة مذعورة تخشى القادم من الأيّام ولا تريد أنّ تحدّث أبناءها بحديث الجوع والحاجة..

كان ذلك قبل العيد بيومين وكانت ليلة مظلمة قاسية البرد ريحها شديدة عاوية ..أغلقت الباب والنافذة جيّدا وألقت ما في البيت من أغطية على صغارها حتى لا يتسرّب إلىهم البرد وأحذنها غفوة النوم حتّى كان الفجر..سارعت إلى تفقّد الزريبة فلم تر ذلك الخروف الذي أبقته لعيد أبنائها..فقط شاة واحدة جفلة في ذلك الركن ..دخلت الزريبة فزاد يقينها وعوت في صدرها الأوجاع..عادت إلى بيتها تترقّب نور الشمس الأوّل حتّى كان فسارت في كلّ سبيل واتّبعت آثار الأقدام لا تدلّها على وجهة وابتعدت في مسالك الرّعاة في الهضاب البعيدة فلا أثر..

لم تخبر صغارها وأعدّت لهم ما كانت تعدّه من طعام ولاحقتهم بأعينها حتى غابوا عنها في مسارب المدارس وعادت إلى بيتها وحيدة تقول نحيبا وتروي لنفسها حكاية الأوجاع..في صباح ذلك العيد تهيّا الصغار لذبح الخروف واقتربوا من الزريبة يريدون إخراجه فأشارت عليهم الأم بإخراج الشاة ودعت صغيرها إلى دعوة أحد الرجال من أقرباء زوجها لذبحها..لم تعد تسمع ذلك الرّجل وهو يدعو ابنها إلى مساعدته في ذبح الشاة ..ولم تعد تسمع حركة الشاة تطلب الحياة بعد ذبحها..فقط وجيف الصدر يحدّثها عن أيّام الجوع القادم ..

 

في المدرسة

- أحيانا الجروح الصغيرة تترك ندوبا عميقة وظلالا من الأحزان لا تخفى.

 رفعت بصري متأملا وجه صديقي القديم وهمست

- لم تكن جروحا صغيرة..فقط كنّا صغارا.

كنا صديقين متلازمين لا نفترقان إلا ليلا أو حين المبيت ..صباحا تأخذنا الطريق إلى المدرسة متعرّجة متثائبة ككل صباحات القرى..نشقّ معا سهولا وهضابا نتّبع سطور الصبّار حتّى إذا بلغنا المدرسة وسمعنا صيحات الحارس نندسّ في جموع التلاميذ التي جاءت بهم دروب القرية البعيدة وفجاجها.يصفّق الحارس بيديه من بعيد فيجتمع كلّ التلاميذ في صفين أمام قسمين تطوّع الرجال في تلك القرية ببنائهما فقد خيّر أبناؤهم ممن سبقوا هذا الجيل الانقطاع بسبب البعد ومشقّة السير إلى المدارس ..

حين يصطفّ التلاميذ متباعدين إناثا وذكورا يسير المدير محاذيا للصفوف فتنحبس الأنفاس في الصدور فإذا رأى إعوجاجا قوّمه بصفعة يتبعها تأوّه مكتوم ثمّ يختار فتاة وفنى من الصفيّن يرسلهما لدائرة اسمنتيّة يتوسّطها عمود حديدي ثمّ يأمر الجميع بالنشيد وعيونه لا تغادر الوجوه تبحث عمّن يتعلثم في القراءة..يرفع التلميذان العلم فإذا استوى في أعلى العمود صفّق الحارس مرّتين فيبستقبل المعلّمان التلاميذ في كلّ قسم.

ندخل القسم ثمّ نتّجه إلى ركن فيه لنختار مقعدين في آخره ثم نجلس وقبل الانطلاق في الدرس يشرع المعلّم يطوف بين الصفوف فيرفع التلميذ قبضة يديه مبرزا أظافره وتمرّ قبضة يد المعلّم فوق رأسه فإذا سمعنا أزيز المقصّ فوق رأس أحدهم علمنا أنّ ضحيّة من ضحايا القسم وقعت بين يديه فتأخذهما رغبة في الضحك ولا يضحكان خوف بطشه..

كان الطقس في ذلك اليوم ممطرا غاضبا في شتاء بارد قاس وفي ذلك الصبّاح دفعتنا الأمهات إلى المدرسة دفعا ولم نكن نريدها فالطريق وحلة والسير شقيّ ..سرنا في الطريق نحاذي كروم الصبّار ونتجنّب البرك وخنادق الماء تسيل تغمر الحفر فلا نراها وكنّا إذا انزلق أحدنا تمتدّ له الآخر تنقذه..ابتلّت ثيابنا وأحذيتنا وكنّا نشعر بالماء والوحل يتسرّب بين أصابع أقدامنا واشتدّ معها البرد حتى لا نكاد نحسّ ..طالت الطّريق إلى المدرسة وقلّ الكلام بيننا وإن كان فهو ارتجاف لا يكاد يبين حتى بلغنا ..الحارس ينهر من قدم التلاميذ ويدفعهم إلى خلع أحذيتهم قبل دخول الأقسام فتقع الأرجل الصغيرة على أرضيّة اسمنتيّة مدبّبة لبروز الحصى جامدة باردة فنرفعها قليلا بعد الجلوس على جانبي الطاولة فنشعر ببرودة الحديد القاسية.. يدأ المعلّم في طوافه بين الصفوف يتأمّل الوجوه الشاردة والأجسام المتلحّفة في بعض من ثياب مبلّلة ما تزال تنزف ماء ..ارتفعت قبضات الأيدي الصغيرة المرتعشة لا يقدر التلاميذ على جمعها وتفحّصها المعلّم ثمّ هوت العصا تزيد من الأوجاع وكان صوت وقوعها على الأصابع مريعا مخيفا ترتجف له الأبدان المرتجفة في الثياب المبللّة..

كنّا نجلس في ذلك الركن في المقعد الأخير توقّف قرب صديقي واخترق بيده شعره وهمهم بكلام لا يكاد يسمع ثمّ سمعنا صوت المقصّ يحفر أخدودا غائرا في رأسه ..تساقط الشعر على أرضيّة القسم وبعض منه على يديّ ثمّ سمعنا صوته هائجا يأمره بالوقوف..كانت ساقاه ترتجفان وصوته غائب في دموعه ..ما تزال ثيابه تنزف ماء ومايزال جسده الصّغير يرتجف بردا وخوفا ..وقف يكاد يسقط حين التفت إليه كلّ التلاميذ ورأى في أعينهم إشفاقا كبيرا ..أمره بالتقدّم إلى المصطبة الاسمنيّة في أوّل القسم ..تعثّرت خطواته وأقدامه الحافية ترسم أشكالا باكية ..نظر إليه ثمّ نظر إلينا جميعا وقال "هذا هو الدرس لهذا اليوم.." ثمّ دفعه نحو الباب يأمره بالخروج..

لا أعلم كيف جمعت قبضتي يدي وألقيت بهما على الطاولة فاهتزّ لصوتهما القسم واستدار نحوي مندهشا مستغربا وسار نحوي مسرعا فأسرعت نحو الباب وامتلأ القسم ضجيجا وأطلّ المدير من مكتبه وصار جميع من في المدرسة خارجا واقتفى الحارس آثارنا ملوّحا بعصاه يتوعّدنا بإعلام عائلتينا..

سرنا في كلّ المسالك نتحاشى النّاس ثمّ جلسنا في مكان بعيد نرقب المدرسة حتى إذا خرج التلاميذ وساروا في طرق العودة إلى ديارهم عدنا نطلب المغيب ولم يكن صديقي يحدّثني حديثه وإنّما شغله الصمت عن الكلام ..كان بيتهم وسطا في القرية وحين بلغناه ودّعته ثمّ أكملت المسير ..في طريقي إلى بيتنا كنت أسمع كلاما وصراخا يرتفع من بيت صديقي وكنت في خلوة من الطريق فآذنت لوجعي بالبكاء..

صباحا لم أجده كعادته في كلّ يوم ..ناديته ثمّ رفعت الصوت بالنداء..صوت أمّه الخافت يتعالى من البيت " إنّه مريض لا يقدر على المسير.."

أضحى ذلك الأمر عادة من عاداتي ..أتوقف قليلا عند بيته فتجيبني أمّه كعادتها "إنّه مريض لا يقدر على المسير.."

الآن..أعدت النّظر إلى صديقي القديم ..تأمّلت كرسيّه المتحرّك ..رفعت بصري نحو رأسه..الشعر أبيض خفيف والوجه مملوء بالندوب الصّغيرة..

احتضنه كثيرا كثيرا ..

أحيانا الجروح الصغيرة تترك ندوبا عميقة وظلالا من الأحزان لا تخفى.

محمد المولدي الداودي.

 

السبت، 1 مايو 2021

 

في رفض "العسكر السياسي" ودفاعا عن مدنيّة الدولة.

في فرضيّة الحرب الأهليّة ونتائجها وانعكساتها.

في موجة الانقلابات العسكريّة التي اجتاحت البلدان العربيّة "المستقلّة " مطلع الخميسنات والستينات كان نظام بورقيبة الميّال إلى بناء "الدولة الأمّة" بعيدا عن أعين الجيش وبرعاية فرنسيّة حذرا متوجّسا من تقريب المؤسسة العسكريّة لمناطق الحكم المدني ومواقع القرار السياسي وامتيازاته ورغم محاولة 1962 وأحداث قفصة 1980 فإنّ الجيش التونسي ظلّ بعيدا عن الصراعات السياسية غير منجذب للخوض فيها.

عمل نظام ابن علي على إضعاف المؤسسة العسكريّة من حيث التجهيزات والتدريب والامتيازات ودفع في اتجاه تقوية النظام الأمني "البوليسي" وبذلك بسط سيطرته على كلّ مناحي الحياة طيلة حكم النظام حتّى كانت الثورة التونسيّة.

يبدو أنّ المؤسسة العسكريّة حسمت أمرها بعدم التدخّل لقمع الثورة ومواجهة المحتجين ويبدو أنّ هذا الأمر كان عاملا حاسما في إسقاط رأس النظام وهروبه إلى السعودية مساء 14 جانفي 2011 وماتزال ذاكرة التونسيين تحتفظ بمشاهد كثيرة تظهر احتضان الشعب للجيش في حين سعت المؤسسة الأمنية إلى المصالحة مع الشعب والتأكيد في كل أزمة سياسيّة على العقيدة " الجمهوريّة الوطنيّة " للأمن رغم بعض السلوك السياسي للنقابات الأمنية ..

كانت الثورة التونسيّة ديسمبر 2010/جانفي 2011 الشرارة التي ألهبت المنطقة العربيّة وتوالى سقوط الأنظمة وانتفاض الشعوب وتغيّرت مسارات الثورات بتغيّر البلدان والأنظمة التي نشأت في سياقات الانقلابات العسكريّة مثل ليبيا وسوريا واليمن وبدرجة أقلّ مصر.

إنّ استقراء تلك التجارب ينتهي بنا إلى استنتاج عام يفسّر سلوك الجيوش ذات العقيدة "المعسكرة الملتزمة بحماية النظام لا الشعب" حيث تؤول الانتفاضات أو "الثورات" إلى حروب أهليّة (اليمن/سوريا/ليبيا/ العراق ومن الممكن مصر والسودان..) وفي الحروب الأهليّة تنقسم الجيوش وتتحوّل المؤسسة العسكريّة في حدّ ذاتها إلى علامة من علامات الصراع عبر انشقاق الجنود والضبّاط عن المؤسسة العسكريّة النظامية ثمّ تتشّكل بعد ذلك "المليشيات العسكريّة" وفق توزّع مناطقي جغرافي أو قبلي وأحيانا حزبي سياسي.

إنّ القراءة الظاهرة لخطاب السيّد رئيس الجمهوريّة التونسيّة قيس سعيّد منذ توليه الرئاسة ومنذ ظهور بوادر الأزمة السياسية الحادّة بعيد سقوط حكومة الفخفاخ تنتهي إلى تأكيد رغبة الرئيس في إقحام المؤسسة العسكريّة ثم الأمنيّة في الصراع السياسي والمتأمّل في خطاباته مقاما وسجلاّ لغويّا وإيحاءات بيانيّة وخطابيّة تنشدّ للحقل الدّلالي (القتال والانتصار أو الشهادة) وهذه الرغبة الجامحة في جرّ المؤسسة العسكرية ثم الأمنيّة إلى مربّع المعركة السياسيّة لها تكاليفها وأثمانها..

إنّ إغراء الرئيس بانتهاج هذا النهج في معالجة الصراع السياسي الحاد في تونس له عواقبه على الوحدة الوطنيّة والنسيج المجتمعي ومستقبل البلد واستقراره ولئن حاول البعض التأكيد إعلاميّا ومن خلال المنشورات الفايسبوكيّة أو التصريحات الإذاعيّة على جاذبيّة النموذج المصري (انقلاب 2013) باعتباره الشكل الوحيد الممكن للإجهاز على خصم سياسي وإيديولوجي ثبّتت الممارسة الديمقراطيّة حضوره الشعبي نسبيّا فإنّ هذا الإغراء مميت ومكلف وطنيّا

الإسراع في استكمال عناصر المغامرة قد يعصف بكلّ التجربة وقد يعصف بكلّ البلد وأيّا كانت المداخل لخوض مثل هذه المغامرة سواء كان المدخل محاربة الفساد أو إعداد ملفات قضائية أو غيرها من المداخل التي تعطي بعدا "شعبيا" للمغامرة الانقلابيّة..

التحرّك في أرضيّة عسكريّة كاستعمال القضاء العسكري أو كالتأكيد الدائم على أنّ الرئيس هو القائد الأعلى للقوات المسلّحة مع تأويل دستوري ألحق من خلاله الرئيس القوات الأمنية إلى قيادته له مخاطره المرعبة وهذا الهوس من طرف الرئيس باستعمال العسكر أو مغازلته لحسم المعركة السياسية سيجرّ البلد إلى دائرة العنف التي ستنتهي إلى حرب أهلية ..

فرضيّة الحرب الأهلية في تونس "ممكنة جدّا" لوجود مجموعة من العناصر المغذية لها ومنها:

-         انقسام مجتمعي حاد سبّبه الانقسام السياسي وكلّ طرف يقدّم قراءة للمسؤول عن تعفّن الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي فأنصار الرئيس من السياسيين والمواطنين يرون في خصومهم الشرّ المطلق الذي يستوجب الاستئصال ولذلك تتردّد في منشورات الصفحة الرسميّة لرئاسة الجمهوريّة وفي التعليقات عبارات من قبيل "اضرب والشعب معاك..قيس سعيد قاهر الجرذان والخوانجيّة..جاكم النهار يا خوانجيّة ..)وهي عبارات تحريضيّة لم يلغها المشرف على الصفحة وكأنّها رسالة من الرئيس إلى أنصاره وخصومه..

-         خطابات الرئيس المملوءة تحريضا واستعارات حربيّة عبر استحضار القيم الدينيّة للحرب والاستشهاد وعبر الزيارات المتعدّدة للثكنات والمقرّات الأمنيّة.

-         خطاب الاستعداد بالنسبة لخصوم الرئيس والتصعيد المنذر ببداية المواجهة ويقين جميع الأطراف أن الحسم عبر المواجهة أضحى ضروريّا بعيدا عن الحوار .

-         وجود محاور إقليميّة تغذّي الصراع وتتحكّم في مساراته ونتائجه

إنّ هذه العناصر مجتمعة هي مقدّمات ممكنة لبداية صراع عنيف قد يتحوّل إلى حرب أهليّة وفي هذه الحالة قد تتوجّه الأمور نحو الانقسام الحادّ مجتمعيّا وعسكريّا ومناطقيّا حيث يكتسب الصراع السياسي على نحو ما بعدا جهويّا (ساحل/جنوب) وهذا أمر خطير سيكون نتيجة حتميّة لأي صراع سياسي عنيف .

إنّ أيّ مغامرة تقود إلى حرب أهليّة في تونس ستؤدّي حتما إلى انقسام المؤسسة العسكريّة والأمنيّة وهذا أبلغ الخوف وأخطر الهواجس.

في الحروب الأهلية يفقد المتحاربون السيطرة على مسارات الحرب ويفقدون القدرة على الحسم أو الانتصار وتنتهي دائما بتدخّل الطرف الخارجي المتحكّم منذ البداية في اللعبة والقادر على إيقافها وفق شروط يراها مناسبة لفرض خياراته ومصالحه.

ولذلك من الضروري أن يتوقف الجميع على تجربة مغامرة الحرب أو التسلّي بإمكانيّة حدوثها ترهيبا لخصوم السياسة وشركاء الوطن.

من الضروري أن يتوقف الجميع عن خطاب استمالة المؤسسة العسكريّة والأمنيّة والزجّ بها في أتون صراع عبثّي لا يعني الشعب ولا يغنيه عن مشاكله اليوميّة والحياتيّة.

من الضروريّ أن تستعيد كل الأطراف المتصارعة ما تبقى لها من عقل فمحاورة خصوم السياسة وشركاء الوطن أفضل من محاربتهم وأجدى..

نحن لا نحتاج إلى حرب تشرّد بعضنا وتقتل بعضنا وتترك ثارات لا تمحى وأحقادا لا تنتهي ثمّ يظهر الطرف الدولي تحقيقا للمصالحة كما يحدث في نهاية كلّ حرب أهلية..نحن نحتاج إلى روح وطنيّة جامعة وقادرة على البناء الوطني..نحن نحتاج إلى الحوار .



محمد المولدي الداودي

السبت، 10 أبريل 2021

 

                                    التطبيع خيانة: العبارة التي أكلها حمار الرئيس.



كانت عبارة ساحرة اهتزّت لها شوارع غزّة فرحا واستجاب لها الوجدان التونسي المملوء حبّا لفلسطين وتفاعل مع صاحب العبارة انتخابيّا وكان الانتصار ..

كانت العبارة بعد ذلك خادعة كاذبة غادرة كشفتها أفعال الرّئيس وفضحتها زيارته إلى البحرين كانت العبارة مجرّد تقنية انتخابيّة ألقى بها الرّئيس في وجدان شعب انفعالي ولكنّه منتصر للقضيّة الفلسطينيّة ولو نظر النّاس في ذلك الوقت نظر العقل في حدود هذه العبارة وإمكانات ملئها بمواقف سياسيّة أو ديبلوماسيّة تتنصر للحقّ الفلسطيني لأدركوا في حينها أنّ قوله كان مجرّد دعاية انتخابيّة لا غير فلم يعرف على الرئيس أي موقف من المسألة الفلسطينيّة أو قضيّة " التطبيع" ولم يعرف عنه إنكاره للمسار التطبيعي الذي بدأه نظام ابن علي منذ سنة الألفين عبر مكتب العلاقات الاقتصاديّة مع الكيان الصهيوني.

زيارة الرئيس إلى النظام المصري كانت الكاشفة لأنّها نزعت كلّ قناع وأظهرت عوراته وأبانت مواقفه التي وصفتها الصفحة الرسميّة لرئاسة الجمهوريّة بأنّها متطابقة مع الموقف المصري.

الموقف المصري مكشوف ومعلوم ووفق ما ذكر في الصفحة الرسميّة لرئاسة الجمهوريّة يمكن معرفة الموقف التونسي قياسا على مواقف النظام المصري من قضيّة التطبيع وحركات المقاومة في فلسطين ولبنان وإذا كانت المواقف متطابقة فهذا يفضي إلى نتيجة تؤكّد ميل الرّئيس إلى خطّ التطبيع ومحاصرة قوى المقاومة المسلّحة أو الشعبيّة.

الرئيس والمحيطون به يعلمون أنّ القبول بالتطبيع هو الخطوة الأولى في اتجاه تطبيع مواقفه مع المحور المصري الإماراتي السعودي الذي اختاره الرئيس أخيرا وهو كذلك الخطوة الأولى في اتجاه تطبيع العلاقة مع أمريكا ومن ورائها الكيان الصهيوني.

كان الكيان الصهيوني ومن وراءه من قوى دوليّة يدركون أنّ خطر الثورات العربيّة ليس في إسقاط أنظمة عربيّة قمعيّة عميلة دمّرت شعوبها فقط وإنّما كذلك في إعادة القضيّة الفلسطينيّة إلى عمقها الشعبي الثائر ..الشعوب الثائرة في موجة الثورات العربيّة هتفت للحريّة كما هتفت لفلسطين ولذلك كان الانقلاب في مصر وكانت الحرب الأهليّة في ليبيا وسوريا واليمن والدول التي دفعت إلى وأد الثورات وقتل أحلام الشعوب في المهد هي نفسها الدول التي تقود موجة التطبيع في نسختها الأمريكيّة الثانية زمن حكم "ترامب".

محيط الرئيس التونسي المملوء مواقف فرنسيّة يعلم ذلك ودفعه إلى اختيار محوره الداعم لخطّ " التطبيع " مع الكيان الصهيوني فكّا لعزلة الرئيس الديبلوماسيّة وكشفا لغموضه الغالب على موقف الدول الغربيّة وطمسا لارتدادات تلك العبارة التي قالها الرئيس ذات خريف انتخابي "التطبيع خيانة" .

طمس آثار العبارة الخادعة والكاذبة والغادرة سيمرّ حتما بمسارات كثيرة ومنها الانحياز الكلّي لمحور التطبيع العربي ( مصر والإمارات والسعوديّة والبحرين) وسيجعل من مسألة التطبيع التونسي مسألة وقت لا غير ويبدو أن سياسة الرئيس الداخليّة ودفعه إلى تعطيل كلّ مؤسسات الدولة لإنتاج أزمة اجتماعيّة واقتصاديّة خانقة سيكون السبيل الوحيد لذلك فالمجتمع الجائع والمنهك لا يبحث كثيرا عن لحظات النضال التاريخي لشعب مظلوم وإنّما سيكتفي بالبحث عن قوته وإن كان في التطبيع مع الكيان الصهيوني المحتلّ..فعلها النظام العسكري في السودان بعيد إسقاط نظام البشير ومن المحتمل أن يفعلها قيس سعيد بعيد إسقاط الدولة التونسيّة.

أسرار الزيارة ستنكشف وإن بعد وقت أو انتظار ولكنّ المعاني الظاهرة من المكتوب في الصفحة الرسميّة لرئاسة الجمهوريّة قالت كلّ شيء وكشفت كلّ سرّ وليس مستبعدا حضور من يمثّل الكيان الصهيوني في الجلسات المغلقة بين الرئيس وحاشيته والنظام المصري كما أنّه ليس مستبعدا حضور من يمثّل الإمارات والسعوديّة..الرسالة التي ستصل الإدارة الأمريكيّة والكيان الصهيوني ستكون مكشوفة "نحن مع سياسة مصر في إدارة المسألة الفلسطينية ولسنا بعيدين عن التطبيع فقط أمنحونا بعض الوقت وأعينونا على خصومنا في الدّاخل".

أسرار الزيارة ستكشف وإن طال الوقت وسيكشفها السلوك السياسي للرئيس داخليّا وإقليميّا من خلال ملف المقاومة والحركات الإسلاميّة كحركة حماس والجهاد الإسلامي أو حزب الله اللبناني ومن خلال ملفّ الصراع في اليمن والتسوية السياسيّة في ليبيا ومن خلال الموقف من الصراع في مياه البحر الأبيض المتوسّط والخلاف التركي الفرنسي اليوناني المصري..

سيعود الرئيس بملفّات استخباراتيّة هي من صميم صناعة المخابرات المصريّة والإماراتيّة والسعوديّة وسيقتبس الرئيس التونسي كثيرا من عبارات الانقلابي المصري عبد الفتّاح السيسي وستنكشف بعضا من ألغاز عبارات الرئيس التونسي الغامضة "كالغرف المظلمة والمتآمرين والخونة...".

سنشهد في المرحلة القادمة صناعة لملفّات أمنيّة محمّلة بمعطيات قدّمتها المخابرات المصريّة وسنشهد حلقة أخرى من حلقات الصراع بين الرئيس وخصوم السياسة في تونس.

نحن لا نعلم أين سيتّجه شراع السياسة في تونس وأين ستدفع به الرّياح ولكن هذه الزيارة إلى النظام المصري كشفت بعضا من وجهة وكثيرا من محنة وطن وهزيمة أمّة.

"التطبيع خيانة" العبارة التي أكلها حمار الرئيس.

محمد المولدي الداودي

تونس