التمهيد: حديث الغيبة تطلب فلا تدرك هو الحديث السّابع
عشر من أحاديث رواية " حدّث أبو هريرة قال..." وكان إطلالة على تجربة
أخرى من تجارب أبي هريرة في مغامرته الوجوديّة وكان استعادة لهوس الترحال بعد أن
سكن هاجس السؤال في" حديث العمى "و "حديث الحمل " والبيّن في مسيرة البطل توقه إلى التسامي فمسار
الرحلة اتّباع للعلوّ ورقيّ ينأى عن الأرض ويتحرّر من الجسد في حركة تطلب الرّوح
أو الغيب والمطلق وهذا من شأن فلسفة المسعدي ورؤيته الوجوديّة والفلسفيّة حيث
يتردّد الإنسان في مأساته بين الحيوانيّة والألوهيّة إذ تقع منزلته وسطا بين حاجة
الجسد ومقتضى عالم الأرض وحاجة الرّوح ومقتضى عالم السّماء ولعلّ قسوة الوجود
ومأساة الإنسان في أدب المسعدي هو ذلك التردّد بين قطبين متعارضين.
- كان نصّ المسعدي "حدّث أبو هريرة قال ..."
نصّا مفردا في صيغته طريفا في أساليبه ولكنّه على وحدانيّته وبدعته كان نصّا جمعا
اجتمعت فيه الرّوافد ففيه بعض من أصول التراث وبعض من صميم الديانة الإسلاميّة
وشيء من روافد الفلسفة والحكمة القديمة وبعض من العود إلى الديانة المسيحيّة. وبعض
روافده الفلسفة الوجوديّة المعاصرة ولعلّ طرافة النصّ في هذا التعدّد الذي أفرد
أثرا أدبيّا اختصر رحلة الإنسان فكرا وكتابة ففيه إحياء لمسالك الحكاية في التراث
العربي وفيه انفتاح على مشاغل الكتابة الروائيّة المعاصرة وفي صميمه فكرة الوجود
الإنساني ومنزلته.
- لئن كان التيّار الوجودي فلسفة أو كتابة أدبيّة نزيل
رؤى الغرب في نشأته وإبداعه فقد حرّك فيه المسعدي هواجس الإنسان العربي المسلم فلم
يكن الوجود في أدب المسعدي عبثا محضا أو خواء دائما أو زيفا متحقّقا أو فناء خالصا
وإنّما كان الوجود توقا متجّددا إلى الفعل وإرادة متعاودة تتجاوز الفشل وتستهويها
المغامرة وتغريها غواية التجراب فكانت رحلة بطل الرواية شوقا إلى المطلق. هكذا
كانت نهايات أبطال المسعدي في أغلب رواياته مزيجا عجيبا جمع بين شوق الصوفيّ إلى
الحلول في ذات المطلق واعتقاد المؤمن من
أنّ الحقيقة تقع في حيّز يتجاوز الجسد والمكان والزمان .
|
|
1- تجربة الرّوح: - في دلالة المكان
والشخصيّات " الدير كان في منعة
من الجبل كما كان منفصلا عن الأرض " -
في دلالة المكان: -
في دلالة الشخصيّات * ظلمة |
- يوحي المكان بالرّافد
المسيحيّ فهو مكان تعبّد وتزهّد ونسك ينقطع فيه النسّاك والعبّاد عن عالم الأرض
والنّاس ويتّخذون من الجبل مكانا عليّا لعلّهم يطّلعون على عالم الغيب .ومن خلال
صورة المكان تتراءى بعض معالم تجربة الروح في مسيرة أبي هريرة الوجوديّة فهي
انفصال عن الناس وانقطاع عن الدنيا ولذائذها ومتاعها ومتاعبها ويمثّل العلوّ
توقا إلى السمّوّ حيث يعلو أبو هريرة ويرفع ذاته بعيدا عن رذائل الوجود فكانّ
صعود أبي هريرة إلى مكان عليّ في جبل إنّما يشير إلى إرادة التطّهّر ونقاء الذات
وصفاء الرّوح فهي رحلة البحث عن وجود بلا ذنب ولا خطيئة ( النقاء) حيث يتحرّر
الإنسان من بعده الحيواني ويلغي بعده الجسدي ...( البعد الغريزي ) فهو في تجربة الرّوح داء
الإنسان وعلّته ولذلك كان الانفصال عن الأرض. لئن انتهت
تجربة الحسّ (الجسد ) بالانفصال عن ريحانة رمز الحياة وطيبها فقد التقى أبو
هريرة المرأة الثانية في عالم غير عالم الأرض ومتعته هو مكان في موضع تستهويه
السّماء وتطرده الأرض ( قمّة الجبل ). أمّا دلالة الاسم فتوحي على نحو من تلك
الرّموز التي أشاعها المسعدي في ثنايا الكتابة ومن وحدة الجذر يلتقي الظلام
والظلم وفي الظلام موت واستكانة فلا نور, زمن يقع نقيضا لذلك الفجر الذي أغوى
أبا هريرة بالحياة ( حديث البعث الأول ) وأمّا لظلم ففيه انقطاع عن الحياة
واستقصاء للموت وظلم للجسد وقتل لنوازعه . كان مثار رحلة
أبي هريرة سؤال يطلب جوابه (" فقلت ما بك ؟ قال : سؤال أطلب جوابه أريد أن
أعرف أيّهما أصدق وجودا الله أم الشيطان ؟) وهنا يتكثّف الرمز محيطا بعبارتي
الله والشيطان فالله رمز للخير المطلق والنقاء الجوهري وأما الشيطان فرمز للشرّ
المطلق حيث الإثم والخطيئة .اختار أبو هريرة في رحلته تجربة الرّوح سفرا إلى
الله أو سفرا إلى الخير المطلق فاعتلى الجبل على مشقّة منه وارتاد مكانا عليّا
متطّهرا من ثقل الأرض وانشداد الجسد إليها لعلّه يظفر بحقيقة طالما ترحّل في
الوجود يستقصيها ويطلبها وفي سؤاله قتل أبو هريرة ماضيه ( تجربة الحسّ وتجربة
الجماعة ) فهل يتمكّن أبو هريرة من فناء الحسّ وهل يتمّكن من قتل الإنسان فيه
وإحياء الإله؟ |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق