المشاركات الشائعة

الأربعاء، 29 أبريل 2020

مسرح التسييس


مسرح التسييس
محمد المولدي الداودي

        شكّلت هزيمة 67 حدثا صادما تجاوز مستوى الجماهير الحالمة بالنصر واستعادة الأرض ليبلغ مستوى النخبة المثقفة التي روّجت لأوهام النصر والكرامة في تحالف مفضوح مع رموز السياسة والسلطة حين كان العمل الفنيّ أداة دعاية سياسيّة ورّطت المثقّف وأوقعت الإنسان العربي في شرك السلطة وخديعة الساسة ..كانت الهزيمة لحظة مراجعة للاختيارات الفنية والرهانات الثقافية وضمن أسئلة الهزيمة ( الوعي بالهزيمة) كانت تجربة سعد الله ونوس المسرحيّة شكلا من أشكال التجريب الفنيّ لإمكانات جماليّة يستوعبها المسرح  العربي رؤية جمالية وموقفا فكريّا من واقع عربيّ مأزوم  ومن إنسان عربي ” وعيه مستلب وذائقته مخرّبة وثقافته الشعبيّة تسلب“.
        مسرح التسييس: ” يجب التنبيه إلى أنّ هناك فارقا كبيرا بين ” المسرح السياسي“ و ” مسرح التسييس“ ..وأحدّد بسرعة مفهوم هذا ”المسرح“ على أنّه حوار بين مساحتين : الأولى هي العرض المسرحي الّذي تقدّمه جماعة تريد أن تتواصل مع الجمهور وتحاوره
والثانية هي جمهور الصالة الّذي تنعكس فيه كلّ ظواهر الواقع ومشكلاته.....إنّني أحلم بمسرح تمتلئ  فيه المساحتان .عرض تشترك فيه الصالة عبر حوار مرتجل وغنيّ يؤدّي في النهاية إلى هذا الإحساس العميق بجامعيتنا وبطبعة قدرنا ووحدته. ( هوامش للعرض والإخراج)
سؤال: كيف تحدّد هنا مفهوم التسييس؟
"يتحدّد مفهوم التسييس من زاويتين متكاملتين . الأولى فكريّة وتعني أنّنا نطرح المشكلة السياسيّة  من خلال قوانينها العميقة وعلاقتها المترابطة والمتشابكة داخل بنية المجتمع الاقتصاديّة والسياسيّة....إنّ الطبقات الّتي يتوجّه إليها مسرح التسييس هي الطبقات الشعبيّة الّتي تتواطأ عليها القوى الحاكمة كي تظلّ جاهلة وغير مسيّسة الطبقات التي يؤمل أن تكون ذات يوم بطلة الثورة والتغيير من هنا كان التسييس محاولة لإضفاء خيار تقدّمي على المسرح السياسي.
أمّا الثانية في مفهوم التسييس فهي تلك التي تهتمّ بالجانب الجماليّ ...إنّ هذا المسرح الّذي يواجه مثل هذا الجمهور لابدّ له من البحث عن أشكال اتصال جديدة ومبتكرة لا يوفّرها دائما التراث الموجود في المسرح العالمي أو العربي"
لقد كانت مسرحيّة سعد الله ونوس " مغامرة رأس المملوك جابر" تأصيلا جماليّا لمقولات المسرح الملحمي ومفاهيمه وتنزيلها في بيئة عربيّة عبر أشكال فنيّة مستلهمة من التراث مادّة تاريخيةّ ( الأمثولة أو الحكاية التاريخيّة ) وصياغة مسرحيّة (الحكواتي) غير أنّ تجربة سعد الله ونوس في بعدها الجمالي القائم على استلهام الرؤى الفنية للمسرح الملحمي كما ترسخت عند رائده المسرحي برشت والمرتدّة إلى التراث العربي نهلا من بعض أشكاله الفرجويّة الشعبيّة لم تغفل المضامين والقضايا التي كانت مدار الفعل المسرحي في أعمال سعد الله ونوس ذلك أن محور السؤال عند ونوس محيط بثلاثة أقطاب متلازمة "كيف نكتب ؟ والإجابة عن مثل هذا السؤال تتنزل صميم التجربة الجمالية في مسرح ونوس ثمّ "لماذا نكتب؟ وعبر مثل السؤال تتداعى مضامين مسرحيّات سعد الله ونوس وقضاياها وأمّا القطب الثالث فمتعلّق بسؤال: لمن نكتب؟وعنه تتشكّل ملامح المتلقي في رؤية سعد الله ونوس "  إنّ الطبقات الّتي يتوجّه إليها مسرح التسييس هي الطبقات الشعبيّة الّتي تتواطأ عليها القوى الحاكمة كي تظلّ جاهلة وغير مسيّسة الطبقات التي يؤمل أن تكون ذات يوم بطلة الثورة والتغيير"
أهمّ مضامين مسرحيّة " مغامرة رأس المملوك جابر":
- المسرح في رؤية سعد الله ونوس أداة تغيير اجتماعي وسياسيّ ينأى عن التلهية والتسلية وهو بذلك مسرح تعليميّ يحرّض الناس ويدفعهم إلى تأمّل الواقع والمصير ويدعوهم إلى تغييره وهو مسرح تحريضي يدفع بالمشاهد إلى روعة السؤال ورعب الواقع ومرارته ولئن ارتبطت مسرحيّة " مغامرة رأس المملوك جابر" بهزيمة حزيران 1967 فإنّها كانت صدى فنيّا للوعي بالهزيمة في بعدها السياسي والثقافي والاجتماعي والحضاري كان ونوس كما كل مثقفي العرب وأدبائهم مصدوما بالهزيمة بعد أحلام والنصر وأوهامه عبر شعارات سياسيّة وثقافيّة زائفة وأدرك أنّ سبيل النصر والثورة والتغيير والوعي الحقيقي غير الزائف يمرّ حتما بمعاناة الواقع واختباره على نحو من الابتلاء لا القفز عليه عبر الترويج لأوهام النصر والمجد ولذلك تجاوز ونوس مفاهيم المسرح الأرسطي القائم أصلا على مفهوم التطهير باعتباره شكلا من أشكال التنفيس عن احتقان نفسي... كان التأكيد على صورة الهزيمة في كلّ تجليّاتها مشغلا أساسيّا من مشاغل ونّوس ولذلك كان الحكواتي في بعض ملامحه صوتا يستعيره ونوس من التراث الشعبي ويتقّنع به كان صوتا مؤلما عبر حكايا الهزيمة :
- زبون2 : حكاية البارحة كانت قاتمة النهاية .
- زبون 3 : من زمان ما سمعنا من العمّ مؤنس حكاية تفرح السّامع.
ولنا أن نتساءل: لماذا هذا الإغراق في صورة الهزيمة والقتامة والمعاناة؟
إنّها من طبيعة المسرح التسييسي التعليميّ كما أدركه ونّوس فعليك أن تعلّم الجماهير حقيقة واقعهم المهزوم عليك أن تشير إلى مواطن الخلل والمرض والاعتلال والوهن والفحش والزيف والمرارة عليك أن تضع الإصبع على الجرح ومن صرخة الألم ستعلم أنّك مألوم ومهزوم وهو بالتالي مسرح التعرية والكشف لا مسرح الإخفاء والتمويه. ولذلك اختار ونوس في فضاء المسرحيّة الأوّل (المقهى) فئة شعبيّة مأزومة.
- زبون 3: الله يساعده ويساعدنا ...ومن منّا خال من الهمّ؟
كما كانت في الفضاء الثاني ( التاريخ) حكاية الخيانة والتآمر والجبن  والخوف والانتهازية...وعلى نحو من التبادل الموضوعيّ بين الفضائين والحكايتين يمكن فهم المسرحيّة في بعدها الدلالي إنّها علاقة تبادليّة بين الزمن والتاريخ بين الحاضر والماضي وكأنّ الوجه المخفيّ هو تماما ما أظهره ونوس عبر خفاء الحكاية وستار التاريخ فبغداد تلك التي أضحت في نصّ المغامرة كناية لكلّ البلاد العربيّة ورمزا تاريخيّا لها يومها مثل أمسها لا تبديل ولا تحويل .
1-       كثافة البعد السياسي ومحوريّته في أعمال سعد الله ونوّس.
مسرح التسييس باعتباره مشروعا مسرحيّا حاول من خلاله " ونّوس " إثارة المسألة السياسية بعد الهزيمة وأعاد طرح أسئلة الواقع على نحو مختلف لم تألفه الكتابة المسرحيّة العربيّة قبل الهزيمة وضمن هذا الإطار كانت المسألة السياسيّة ملحّة في حضورها عبر رموز السلطة مكانا ( ديوان الحاكم ) وشخصيّات ( الخليفة والوزير ) وعلى نحو تغريبيّ يحوّل سعد الله ونّوس مسألة السلطة والسياسة من موضوع مسرحي إلى محور يدين الواقع ويكشف مواطن الخلل فيه فالخلل في البنية السياسيّة لا يكمن في فساد السلطة أو قمعها أو استبدادها بل يكمن في عجز الجماهير عن إدراك مواطن الخلل فيها ولذلك كان أسلوب التغريب شكلا من أشكال إعادة مساءلة المألوف السياسي وأسلوبا من أساليب محاكمة الواقع ويعتقد "ونّوس" إنّ إثارة السؤال وتعميق مداه حتى يجتاح كلّ أبعاد الواقع العربي سياسة وثقافة واجتماعا هو المقصد الأساسي من مقاصد مسرح التسييس فهو مسرح يسأل ولا يجيب ومسرح يدين ويحاكم ولا يقترح الحلول.

- صورة السلطة : التآمر والصراع والدسائس ( الوزير والخليفة والحاشية)
- القطيعة بين الحاكم والمحكومين ( الرّجل الثاني: عندما يجلس على العرش الخليفة لا أحد يطلب من أهل بغداد رأيا أو نصيحة)/ ( الوزير: (باحتقار) ومن يبالي بالعامّة ؟لا..هؤلاء لا يثيرون أيّة مخاوف..يكفي أن تلوّح لهم بالعصا حتّى ينمحوا وتبتلعهم ظلمات بيوتهم)
- اتحاد المصالح بين رجال السلطة وبعض الفئات الانتهازية ( التجّار / الولاة / خطيب الجامع(المؤسسة الدينيّة)- الوزير: ..ستكون خطبة الجمعة أدقّ من إبرة الميزان .وسيختار كلّ كلمة بحيث لا يوحيّ بأيّ انحياز).
- صورة الرعيّة ( الجماهير / المحكومون) : السلبيّة / الخوف / الجوع / اللامبالاة / الاستلاب....
- العلاقة بين الراعي والرعيّة : علاقة قطيعة محتكمة إلى ثنائيّة القمع والخوف ( العصا والجوع).
- علاقة السلطة بالمثقّف: اختلفت ملامح المثقّف في مسرحيّة "مغامرة رأس المملوك جابر" فهو الحكواتي باعتباره صوتا خفيّا لسعد الله ونّوس يمتلك المعرفة( رمزيّة الكتاب) ويدرك مسارات التاريخ وشروط تغيّره وعلاقته بالزبائن متردّدة بين بعدين أمّا الأوّل فيتعلّق بالبعد الترفيهي( الحكواتي وسيلة هروب من الواقع وأزماته) وأمّا الثاني فمتّصل بالبعد التعليمي المرتبط أساسا بالمسرح الملحمي ذلك أنّ التأكيد على معالم الأزمة في نهايات الحكايا وإرجاء الحكايات المفرحة (أيّام البطولات والانتصارات/ أيّام الأمان وعزّ الناس وازدهار أحوالها) وعي من الحكواتي بالشروط الموضوعيّة للتغيير الّتي لم تحن لحظتها وقد طغى البعد التعليمي في نهاية المسرحيّة حين خرج الحكواتي عن حياده وخاطب الجمهور ( -الحكواتي: لا أدري ...ربّما ..الأمر يتعلّق بكم.).
- الزّبون الرابع: كانت صوتا مختلفا في مواقفه ولكنّها مواقف ظلّت متردّدة لم تبلغ درجة الفعل أو القدرة على التغيير.
- الرّجل الرّبع: وهو صورة عن المثقّف في إطار الحكاية المضمّنة المعتمدة على المادّة التاريخيّة إطارا دراميّا للمسرحيّة وللرجل الرابع في الحكاية وجهان : الأوّل يتعلّق بعلاقته بالسلطة( استبداد وقمع وسجن + محاولة ثورة وتمرد) : الثاني يتعلّق بعلاقته بالرعيّة ( علاقة قطيعة وحذر وريبة ورفض) فكان صوته منكفئا لم يبلغ درجة الفعل القادر على التغيير لأنّه لم يتمكّن من إرساء مدّ شعبي يتحمّل مسؤوليّة التغيير والثورة (المثقّف المعزول عن طموحات الجماهير ).
- البعد الاجتماعي: في المسرحيّة تلوين طبقي ( الساسة/ الولاة/ التجّار/ رجل الدين/ المماليك/ عامّة الناس) وبالتالي فقد كان الصّراع في بعض وجوهه صراعا طبقيّا ( حلم جابر المملوك بتجاوز حدود الطبقة ودونيّتها نحو المنصب والثروة).
- التأكيد على معاناة الطبقة المهمّشة ( الجوع/ القمع/ الخوف) والتأكيد على سلبيّتها
- واقع اجتماعي بائس يتداخل فيه البعد السياسي بالبعد الاقتصادي .
- البعد الحضاري: يتجلّى هذا البعد أساسا في علاقة العرب بالعجم في إطار استلهام المادّة التاريخيّة ( سقوط بغداد في يد المغول في نهايات الدولة العباسية) وتبدو العلاقة في بعدها الحضاري ذات مظهر إشكاليّ ( استعانة الوزير بالأعداء وتخريب بغداد وتقتيل أهلها) وفتنة بغداد وروعتها في نظر أمراء المغول(-- الملك: يوم مشهود ..بغداد العظيمة ترتخي, وتتمدّد بكل بهائها أمام جيوش ملك العجم ..حلم قديم لمنكتم بن داوود..ولوالده من قبله..) وهذه الموقف من بغداد الحلم القديم والفتنة المتكرّرة يرتدّ احتقارا لأهلها( الملك: سيكونون كالكلاب ..يلعقون أحذيتنا, ويطلبون مرضاتنا..) ويرى سعد الله ونّوس في بحثه عن مظاهر أزمة الواقع العربي أنّها ذات بعدين :
1- مستوى الفساد السياسي والخلل في بنية الواقع الداخلي وسلبيّة الجماهير وعجزها عن التغيير.
2- العدوّ الخارجي المتربّص بالأمّة وقدراتها ( منكتم بن داوود = إيحاء بالعدوّ الصهيوني)
إطلالة الزمن على التاريخ وانفتاح الحاضر على الماضي( قراءة في التضمين الدلالي)
مسرح داخل المسرح كانت مسرحيّة سعد الله ونّوس وحكاية تحتوى أخرى وتخفيها حينا ثمّ تبديها في إطار عمليّة التغريب وكسر الإيهام حتّى يظلّ ذهن المتفرّج متيقّظا لا توهمه الحكاية ولا تستهويه وضمن هذه الرؤية الفنيّة تتبدّى الدلالات فوظيفة المسرح تتجاوز مجرّد التسلية ليتحوّل إلى أداة تغيير وتحريض وتسييس ومن قراءة الواقع العربي في كلّ هزائمه كانت المسرحيّة صرخة مؤلمة ترنو إلى إيقاظ الناس واستفاقتهم ولئن كانت العودة إلى التاريخ تضليلا فنيّا وتغريبا وتبعيدا يمّكن المشاهد من إدراك واقعه وقضاياه (الإغراق في التأريخيّة) فإنّها تظلّ لحظة لم تبرح زمنها فكان التاريخ قناع الحكاية وحجابها وعلى نحو من ترديد الصدى للصوت كانت علاقة الحكايتين واقع عربي مهزوم يرى صورته في مرايا التاريخ فيدرك بؤسها وزيفها وهزائمها ..إنها صورة الجوع والقمع والسجن والخوف والانتهازية والسلبيّة والخيانة وبغداد الأمس هي بغداد اليوم تباع إلى مغول العصر وساستها هم بالأمس يتكررون خيانة وتآمرا واستبدادا وعامّة ناسها لم يغادرهم الخوف ولا الجبن وكذلك مثقّفيها ظلّوا صوتا خافتا كما كانوا وبغداد مدينة كناية عن أمّة تردّدت في تاريخا بين الهزائم وما أشبه الليلة بالبارحة.
 ورغم أنّ مسرحيّة سعد الله كانت مؤلمة على نحو من شعور الزبائن ولكنه ألم يستفزّ مكامن السؤال في الإنسان : لماذا هذا الواقع وهزائمه؟ والسؤال بذرة الاستفاقة وبداية الوعي وذلك أسمى ما يطلبه سعد الله ونّوس.
هل وفّق سعد الله ونوس في تجربنه المسرحيّة؟
كانت تجربة عمّقت من مشاعر الخيبة والفشل بالنسبة لسعد الله ونّوس في بعدها الجماليّ والفكريّ فقد ظلّت رهينة المنع أو رهينة الرؤية المسرحيّة الرسميّة ( فضاء مسرحيّا) كما أنّا لم تغيّر في وظيفة المسرح ولا في طبيعة المتلقّي( غلبة مسرح التهريج بدل المسرح التعليمي)
لقد انتهى سعد الله ونّوس يشكو من الواقع العربي آملا في تغييره عبر الكتابة تنظيرا مسرحيّا أو عملا إبداعيّا لأنّه محكوم بالأمل رغم صور الخراب والغياب
كان لسقوط بغداد زمن المماليك راو يروي فجيعتها فمن لبغداد اليوم ليروي خيانتها؟






ليست هناك تعليقات: