المشاركات الشائعة

الجمعة، 8 مايو 2020

النهضة وفقه المناورة السياسية

النهضة وفقه المناورة السياسيّة
الجزء الرّابع
محمد المولدي الداودي
الانتخابات: محنة الاختيار وبلوى الاختبار .
كان مؤكّدا فوز حزب حركة النهضة في الانتخابات التشريعيّة ليوم 23/10/2011 لأنّه الحزب الأكثر تنظيما والأقدر على تعويض القدرة الهيكليّة للحزب المنحلّ وأثبت الحزب عمقا شعبيّا ثاويا في المدائن والقرى والأحياء سرعان ما أظهرته الانتخابات  غير أنّ الفوز في الانتخابات التشريعيّة بتلك النسبة التي لم يتوقّعها كثير من محترفي السياسة في الدّاخل والخارج أعاد طرح أسئلة الحكم على حركة سياسيّة لم تتجاوز في تجربتها عتبات السجون والمنافي ولم تتحمّل في مسيرتها السياسيّة مسؤوليّة الحكم أو المعارضة العلنيّة والمنظّمة وظلّت قدرتها على فهم التحوّلات الكبرى التي أصابت البناء المجتمعي والبناء التنظيمي للدولة عاجزة عن ملامسة مراكز الفعل ومحاوره الأساسيّة فالإسلاميّون في تونس لم يكونوا مكوّنا بنائيّا في الدولة بقدر ما كانوا مادّة بشريّة تختبر فيها مؤسسات الدولة قدرتها على الرّقابة والتسلّط والقمع.كانت نتائج الانتخابات التشريعيّة في 2011 مشهدا "سيرياليّا" تمتزج فيه عناصر العبث التاريخي والغرائبيّة الأسطوريّة التي تتجاوز منطق التاريخ وتلازماته الشرطيّة .
غمرة الاحتفال بالنصر أضاعت كثيرا من ملامح العقل ونشوة الفوز أذهبت الشعور بمحنة الاختيار ولم يستوعب " المنتصرون" سؤال الحكم ولم يدركوا غضب " المهزومين".
حاولت حركة النهضة في حملتها الانتخابيّة سنة 2011 الاستجابة لأفق انتظار أطياف شعبيّة مختلفة في المنطلقات ومتباينة في المقاصد ولم تدرك النهضة معالم النشاز في مجموع ناخبيها الذين تجاوزوا المليون وثلاثة مائة ألف ناخب .
أعدّت النهضة ككلّ الأحزاب المشاركة في الانتخابات التشريعيّة برنامجا انتخابيّا حوى 365 نقطة توزّعتها محاور اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة وثقافيّة ...وحاولت من خلاله الظهور بمظهر الحزب السياسي القادر على الحكم كما حاولت الاستفادة من الشعار الثوري وتحويله إلى خطاب انتخابيّ كالوفاء للثائرين والشهداء عبر تحقيق مطالبهم وشاع في المهرجانات الانتخابيّة لرؤساء قوائم النهضة في الجهات الجمع بين فكرة الثورة وفكرة الثروة وأضحى الحديث عن دولة العدل والرّفاه ثابتا من ثوابت الدعاية السياسيّة يتلّقاها التونسيّ في كلّ مهرجان خطابيّ لحزب حركة النهضة.
لم تكن مسألة صياغة الدستور الجديد جليّة في الخطاب الدّعائي للحركة في حملتها الانتخابيّة وتنامى الشعار التنموي والاجتماعي وسقطت النهضة في طرح مسألة الدستور ومناهج الحكم في المهاوي والفخاخ التي أحسنت صنعها وسائل إعلاميّة مازلت أذرع الدولة العميقة الماليّة والإعلاميّة تصنع خطابها ومواقفها.اقتصر الموقف من الدستور في الخطاب الدّعائي للحركة في الحملة الانتخابيّة على إشكاليّة الدولة والهويّة إلى حدّ أغرى بعض قادتها المؤسسين باستعارة " عبارة الخلافة السادسة " .كانت العبارة في عمقها الفكري والوجداني انجذابا للرؤى الأولى التي كوّنت فكر الحركة ومنهجها وأقحمتها في دائرة الرؤية الأصوليّة للإسلام باعتباره منهج حكم ونصّ تشريع.لم تكن الأطياف الشعبيّة في تلك المرحلة من تجربة الانتقال السياسي قادرة على فهم الحدود الفاصلة ومظاهر التمايز بين الحركة وبقيّة التمظهرات الأخرى للفكرة الإسلاميّة وخاصّة التيّار السلفي بشقيّه العلمي( الدّعوي) والحركي (الجهادي).بل إنّ كثيرا من أنصار التيّار السلفي دعوا جمهور الناخبين إلى انتخابات حركة النهضة ضمن خلق مساحة فاصلة بين مكوّنات العائلة الإسلاميّة من ناحية والعائلة العلمانيّة من ناحية أخرى.هل تعمّد قادة الحركة طمس الفوارق الجوهريّة الفاصلة بين الحركة وبقيّة مكوّنات العائلة الإسلاميّة أم أنّ تعدّد الرّوافد واختلافها هو الذي أكسب الحركة هذا الغموض المنهجي في التعامل مع مسألة الإسلام السياسي؟
أكّد كثير من زعماء حركة النهضة وقادتها في خطابهم الإعلامي على الهويّة التونسيّة للحركة وأكّدوا أن حركة النهضة تونسيّة الهوى والمنشأ والرؤية وحاولوا الوصل بينها وبين حركة الإصلاح وأعادوا بعض حلقات تكوينها الوطني والنضالي إلى الشيخ عبد العزيز الثعالبي وكان هاجس تجذير الحركة وتأصيلها في تربة تونسيّة بيّنا في كل الردود التي ألقاها قادة الحركة ردّا على سؤال العلاقة بين النهضة وحركة الإخوان أو بقيّة الأحزاب والحركات المنتمية للعائلة الإسلاميّة العالميّة .
إنّ هذا التشابك والتداخل والتمايز والاختلاف بين مكوّنات عدّة للفكر الإسلامي السياسي والذي استوعبته النهضة وحاولت تذويب عناصر النشاز فيه سيتحوّل إلى عنصر إشكالي في التعريف والتصنيف وسيبقى محورا للجدال السياسي حول الحركة في بعدها المفهومي والبنائيّ .
تجربة الترويكا: تجربة في التجديد السياسي أم هي خضوع لبعض مكاره الحكم؟.
منع القانون الانتخابي ( قانون التمثيل النسبي )من استئثار حزب حركة النهضة بالأغلبية المطلقة ومكّنها من نسبة لا تتجاوز 41 بالمائة وما أفرزته الانتخابات من نتائج أكّد رغبة حركة النهضة في بناء حكم ائتلافي توافقي في المرحلة الانتقاليّة ولم تكن هذه الرغبة محكومة بشروط التوافق الفكري أو السياسي أو التناسب بين البرامج والأهداف وإنّما كانت محكومة بتوازنات حزبيّة أفرزتها الانتخابات التشريعيّة فكانت الترويكا تجربة من تجارب الحكم التوافقي المحكوم بدوره بكثير من معالم الإكراه السياسي الذي تجلّت آثاره سريعا في ذلك الاختلاف في منهجيّة التسيير والتباين في تبويب الأولويّات بالنسبة للأحزاب الثلاثة المكوّنة لأجنحة الحكم في حكومة الترويكا.أصاب الخلل المنهجي في مبدأ التوافق وتناقضاته حزبي المؤتمر من أجل الجمهوريّة وحزب التكتّل من أجل العمل والحريّات وطفت على السطح خلافات جوهريّة كشفت ضعف التحالف ووهن التوافق وبدأت مظاهر التناقض بين أولويّات كل حزب من الأحزاب الثلاثة حاسمة في كشف ملامح الصراع والتنافر .
كانت الترويكا تجربة سياسيّة متسرّعة و ارتجاليّة حكمتها نتائج الانتخابات ولم تكن توافقا حقيقيّا في الرؤية والغايات والمنهج لقد كانت رسالة سياسيّة حاول من خلالها حزب حركة النهضة الإجابة عن أسئلة خصوم السياسة والفكر من الأحزاب التونسيّة وأسئلة الغرب المرتاب من حكم ملوّن بألوان الإسلام السياسي ولذلك بدت عناصر الفشل أقوى من عناصر النجاح واهتزّت في هذه التجربة عناصر الترابط الحزبي لمكونيّن أساسيين هما حزبا المؤتمر والتكتّل وأدركت النهضة عسر المرحلة وغموض المسار.
في تلك المرحلة الانتقاليّة الأولى خاضت حركة النهضة صراعا ثنائيّا استنزف جهدها التنظيمي واستفرغ قدرتها على المناورة فقد واجه نوّاب حركة النهضة في المجلس التأسيسي خصوم السياسة والايدولوجيا وعمّق تفكّك حزبي المؤتمر والتكتّل عزلة الحركة واستعادت تلك الأحزاب معارك الدين والدولة وفي المشهد الحكومي غذّت أحزاب المعارضة المطلبيّة واستعانت بالمنظّمات النقابيّة في توسيع دائرة الاحتجاج الاجتماعي وتجاوزت الخصومة السياسيّة كل حدّ واستعان خصوم النهضة بآلة إعلاميّة تفنّنت في صناعة معارك وهميّة لتحريف المسار واستنزاف الجهد الثوري وتزييف الوعي.
الاغتيال السياسي وفنّ الاستثمار في الدم
لم يكن اغتيال المناضلين السياسيين  شكري بلعيد يوم 06/02/2013 والحاج محمد البراهمي يوم 25/07/2013 بالحدث العابر في التاريخ التونسي المعاصر بل لقد أضحى الاغتيال السياسي عنصرا من عناصر اللعبة السياسيّة العنيفة والقاتلة والغامضة التي أعادت رسم مكوّنات اللوحة السياسيّة ضمن إطار من الخوف الذي دفع كل المجموعة الوطنيّة ومنها الأحزاب "الثوريّة"  إلى إعادة القراءة في المسارات والمآلات والمنهج والطريقة ...بعد الاغتيال لم تعد الثورة في مفهومها السياسي (قانون تحصين الثورة) ولا الإداري (مقاومة الفساد) ولا الأمني ( الأمن الجمهوري والجيش الوطني ) ولا الاجتماعي(التنمية والعدالة ) هي المستهدفة جذريّا وإنّما استهدفت المكوّنات البنائيّة للدولة ومنها وحدة الشعب والسلم الأهلي وفي تلك المرحلة حاولت النهضة حمل الدولة بيد وحمل الثورة باليد الأخرى وأدركت حكمة السياسة وغلّبت راية الوطن على راية الحزب .
المشهد المصري: العودة إلى دائرة المحنة.
مرّة ثانية يلتقي المشهد السياسي التونسي بالمشهد السياسي المصري ويتناظران ففي 25 فيفري 2011 التقط الشارع المصري في القاهرة صدى الثورة التونسيّة وسار في مساراتها وفي 03/07 /2013وما بعدها التقط الشارع التونسي في باردو صدى الانقلاب المصري واستعار منهجه وأدواته ودفع البعض من خصوم السياسة في تونس المدفوع بمشهد استباحة الدم المصري في الشوارع والساحات دفع فصيلا من المعارضة إلى محاكاة الواقع المصري غير عابئ بتكلفة الدم والإنسان وفي تلك المرحلة تداخلت العناصر المشكّلة للعلامة الانقلابيّة من مكوّنات الدولة العميقة ورموزها السياسيّة وخصوم الفكر والسياسة وأموال الخليج الخائف والمتربّص بالربيع العربي والإعلام المدفوع الأجر ودوائر المخابرات العربيّة والأجنبيّة ومحترفي الإرهاب السياسي والديني...
في تلك المرحلة استفادت حركة النهضة من الدرس المصري القاسي والدّامي وأدركت بحكمة بالغة المسارات وخيّرت السير عبر توازنات دقيقة تحفظ فيها كيان الدولة وكرامة الثورة.
محنة النبتة في أرض صلبة صلدة لا تصلح للنبات ومحنة الفكرة في أرض متحوّلة متحرّكة لا تدرك الثبات ومحنة السياسة فكّ لغة الواقع ومحنة التغيير فهم شروط تحقّقه.
النهضة جماعة واتّجاه وحركة.. هذا مسار التاريخ في حكايتها وهي المحنة والابتلاء في حديث أهلها وهي مدرسة من مدارس الفكر الإسلامي الحديث جرّبت فتنة الفكرة ومحنة الحكم ..وأدركت تلك المسافة الفاصلة بين جاذبيّة الخطاب الإيديولوجي أو السياسي أو الثوري ومعركة البناء الواقعي ..أخطأت أحيانا في تقدير مسافات الفصل والوصل مع بقيّة الأحزاب والمنظّمات والهيئات وأخطأت أحيانا كذلك في اتجاهات السير واكتشاف النهايات ولكنّها لم تخطئ أبدا في عناوين الوطن.
النهضة اليوم جمع من الرؤى الفكرية والدينيّة والسياسيّة يحتاج إلى صهر وصقل وتجربة في الحكم أرست فكرة التوافق تحتاج إلى نضج والنهضة اليوم جسم حيّ عمره خمسة وأربعون عاما أوّله جيل الدعوة وآخره جيل الثورة ....وما بينهما أسئلة التاريخ والإنسان.















النهضة وفقه المناورة السياسية


النهضة وفقه المناورة السياسيّة
الجزء الثالث
محمد المولدي الداودي
النهضة: إعادة اكتشاف الذات .
لم تكن عودة الشيخ راشد الغنوشي إلى تونس يوم 30 جانفي 2011 مجرّد حدث عابر بل لقد كانت عودته علامة فارقة في الثورة التونسيّة وإحدى علامات تحوّلها وعنصرا من عناصر تكوّنها التي يمتزج فيها الواقعي بالحالم وهي مساحة التداخل العجيبة بين دائرة المحنة ودائرة التفاؤل.عودة الشيخ راشد الغنوشي عودة لقطعة من التاريخ التونسي المعاصر التي أسقطها النظام بكلّ مكوّناته الأساسيّة أو الخفيّة وحاول طمسها عبر قوّة الدولة ومؤسساتها ..الفكرة أحيانا أقوى من الدولة وما يطمسه الجلاّد تحفظه الأرض والذّاكرة..عاد الشيخ راشد الغنوشي المحنة والفكرة ..ليختبر الشيخ نفسه زمن الثورة.
في سنين المحنة والغربة تغيّر الإنسان والأوطان وتلوّنت أفكار الحركة بألوان تربة المهجر وعصفت رياح كثيرة في ثوابت الفكر والقناعة.وفي تونس رجال آخرون غيّرتهم سنون القمع ..فماذا لو أنكر الأصل فرعه؟ ..وماذا لو أنكر الشبيه شبهه ؟.
أصبحت الحركة مكوّنا من مكوّنات الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي وجزءا من عناصرها الإديولوجيّة وخصما من خصوم السياسة داخلها.وداخل الهيئة تراءت بعض ملامح هيئة 18 أكتوبر وانكشفت بعض أضاليلها...فما يصنعه الاستبداد تذهبه أوهام الحريّة. وداخل الهيئة سقطت النهضة ككل الأحزاب المكوّنة لها في فخّ الايدولوجيا ولم تستوعب كبقيّة مكوّناتها مخاطر الدولة العميقة وقدرتها على التشكيل الذاتي لصورة مموّهة تتجاوز الصورة الأصل ولكنّها تحتفظ بسماتها الأساسيّة وعوامل بقائها ..في معارك الهيئة تجليّات لرؤى الحكم والسياسة وتناظرات بين المواقف في مسائل الاقتصاد والنمط الاجتماعي والثقافي ومحاولة للتحشيد الانتخابي ضمن سباق محموم نحو السلطة ولم تسأل كلّ الأحزاب وكل المنظّمات والهيئات المكوّنة للهيئة عن المكوّنات العميقة للسلطة والحكم ومدى استجابتها للواقع الجديد وقابليّتها لاستيعاب الفكر الثوري والرؤية الثوريّة.
في الوقت الذي استعادت فيه الأحزاب المعارك الفكريّة القديمة كانت الدولة العميقة تجدّد طرائق خطابها وتتطّهر من خطاياها ومفاسدها لتعيد بناء الوعي الشعبي عبر القفز   إلى الوراء وتجاوز مرحلة تمتدّ في التاريخ التونسي المعاصر على مدى ثلاث وعشرين عاما فكان الباجي القايد السبسي الصورة المستوحاة من الصورة النموذج للزعيم ( الحبيب بورقيبة ).
إنّ إجهاض أيّ محاولة لتفكيك العناصر المكوّنة للعمق الفاعل في الدولة العميقة كالجهاز الأمني أو القضائي أو الإداري وبناء هياكل مماثلة للهياكل التنظيميّة التي ساهمت في نجاح الثورة كالنقابات أو المنظّمات أو حتى الأحزاب  تعبّر عن  قدرة الدولة العميقة على تحليل العناصر البنائيّة للحراك الثوري من جهة كما تعبّر عن وعي الدولة العميقة بعجز الأحزاب المشكّلة حديثا على إنتاج بدائل للحكم والتسيير من جهة ثانية.تعدّدت النقابات الأمنيّة وتشكّلت نقابة للقضاة وتمّ دفع فرحات الراجحي للاستقالة واستعان الباجي قايد السبسي بالمخزون الحزبي والإداري والأمني للمنظومة القديمة ووجّه كلّ الأحزاب نحو السباق الانتخابي وأمات كلّ العلامات الرمزيّة المكوّنة للذاكرة الثوريّة انطلاقا من مفارقة (الفوضى وهيبة الدولة ) ولذلك دفعت كلّ الأحزاب للمشاركة في قتل النفس الثوري الأخير في القصبة 3.
لم يمكّن تسارع الأحداث وتطوّر الواقع السياسي وتناقضاته لم يمكّن كلّ هذا حزب حركة النهضة من تلمّس الأرضيّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والسياسيّة للمجتمع التونسي ولم يمكّنه من اكتشاف التحوّلات التي أنتجت تلك اللحظة الثوريّة كما أنّ تعدّد الروافد واختلاف التجارب بين المؤسسين للحزب والمنتمين إليه لم ينل حظّا من الاهتمام .
في حزب حركة النهضة مدارس سياسيّة ومواقف متباينة ورؤى مختلفة قد تبلغ حدّ التناقض أحيانا فالقادة الذين تشرّبوا التجربة الديمقراطيّة في سنين المنفى في المهجر أدركوا من السياسة ما لم يدركه قادة الدّاخل الذين خبروا قمع النظام وظلمه وكانوا الأكثر تعبيرا عن معاناة الناس في ظلّ الاستبداد وقادة الدّاخل هم الذين أداروا بعضا من التوافقات السياسيّة زمن الاستبداد وشاركوا في الحراك الحقوقي والنقابي أو الطلاّبي واكتسبوا في سنين المحنة قدرة على المناورة وفرض مساحات للحركة السياسيّة بعيدا عن المراقبة أو المتابعة واستفادوا من التجربة اليساريّة أو القوميّة عبر خلق فضاء مخفيّ للعمل السياسي عبر تلوينات نقابيّة أو مداخل حقوقيّة ولقد أعاد الإسلاميّون عقد الصلة بينهم وبين النّاس وصاروا جزءا من هموم النّاس ومعاناتهم كما عبّروا عن بدايات تشكّل لفعل الرّفض المضمّن في إطاره الشعبي لا السياسي ( معركة الحجاب في تونس ).
ألغى التسارع في وتيرة الأحداث السياسيّة بعد الثورة كشف التباينات وأخفى مناطق الاختلاف بين مكوّنات الحركة وعناصرها التاريخيّة ولم يتح للملاحظين إدراك التحوّلات الفكريّة أو الحركيّة التي أصابت منهج الحركة ودفعتها إلى المراجعة وفق قراءة نقديّة للمسار ولذلك اختلف خطاب الحركة الجماهيري واختلفت صور حضورها لدى النّاس.
لم تكتسب النهضة صورة واحدة في وجدان أنصارها والمنتمين إليها حديثا من الشباب بل كانت عند البعض تفاعلا وجدانيّا دفعته أدبيّات السجون والمنافي وتضامنا إنسانيّا حكمته روح الاعتراف بمدى الظلم الذّي طال هؤلاء النّاس وكانت كذلك انشدادا فكريّا لفكرة الإسلام والشريعة والدّين وأحيت حركة النهضة وهي الامتداد الفكري للاتجاه الإسلامي , أحيت لدى شريحة "متديّنة " من الشعب التونسي أحلام العودة إلى اللحظات المضيئة من التاريخ الإسلامي وهي لدى المقهورين والمظلومين اجتماعيّا صورة " لتقوى السياسية" التي تقوم بديلا لصورة الفساد والارتشاء والمحسوبيّة والتفاوت الجهوي والاجتماعي.
لم تكن النهضة مجرّد حزب سياسي بل كانت كلّ هذا الكمّ المتداخل من المعاني والأحلام...كانت النهضة أفقا متفائلا يسعى إلى تجاوز واقع مأزوم ومألوم..ولم يكن أحد ليدرك الحدود الفاصلة بين تلك العناصر المتآلفة ولم يكن أحد ليدرك الحدود الفاصلة بين أحلام الفعل وإمكاناته بل إنّ كثيرا من قادة النهضة وزعمائها أجّلوا البحث في المكوّنات البنائيّة للحركة وتعمّدوا المزج بين عناصر اللوحة المتباينة والمتناقضة التي كوّنت جاذبيّة النهضة ..إنّ النزوع إلى الغموض وتعمية المشهد عنصر من عناصر الإدهاش وخلق صورة فاتنة وجاذبة.




السبت، 2 مايو 2020

حديث الكمين




حديث الكمين

حدّثنا من نثق في كلامه ونتّبع صوابه ونترقّب في السمر خطابه وأضاف إليه الثقات من صحبه خبرا ولم ينكره العارفون بعلم الكمائن والخبراء في ميادين الصيد والطرائد قال..
كانت الثكنة بعيدة بعد الوصل في صحراء غريبة الاسم والرسم رمالها كالجمر حين يشتدّ فحيح الهاجرة وماؤها أجاج ويومها إذا اشتدّت الريح مغبّر عجاج يصفع الوجوه ويقتل الأحلام في أفئدة الرجال.
قال :وعند المبيت حين يسدل الليل ستاره ويغيب من اليوم نوره ونهاره ويسكن الحسّ ويكثر الهمس بلا جواب ويقلّ التندّر والخطاب وحين تغيب الأنفاس عن الكلام والجند في فرشهم نيام يقوم ذلك الخفيّ قومة الظمآن للفعل يطلبه ويسطو على الجار من الصحب يسرق منه لذّة غاضبة مستعجلة وحين تعلو الصيحة في المكان يختفي الفاعل كأنّه جان فلا أثر وسار الخبر بين الجند سريان النار في الهشيم وصار حديث القادة من العسكر يقولنه بينهم كمدا فقد أعجزتهم حيله وشرّدتهم سبله وهو في منعة من الوقوع يفعل الأفاعيل ثم ينجو بشهوته وضلاله.
قال:حتى إذا كان الصباح أقبل شاب من شباب الثكنة يريد أن يثأر لصحبه من صاحب الفعلة واقتحم مكتب كبير الجند حتى أخافه ورفع يديه حتى كاد يطاله وقال متحمسا يريد القتال ّ"سيّدي عندي الحلّ لصاحب الحيلة "فاهتزّ كبير الجند اهتزاز الغريق يريد من ينقذه ورفع الحاجب منتبها وفتح العينين متحيرا يرغب في السماع فاقترب الشاب وأطال الهمس وكبير الجند يتعجّب حتى إذا فرغ من المناجاة رفع اليدين وصفّق وأقبل على الشاب محتضنا وكاد الدمع يفضح سروره لولا لباس الجنديّة وما فيه من رجولة..
قال الشاب حين اطمأنّ لحكمته ووثق في فطنته "لا تكون الحيلة إلا من جنس ما يريد الفاعل الخفي وإني عزمت على إيقاعه حين تعميه الشهوة على اكتشاف الفخّ"
وما يكون الفخّ؟
قال الشاب قول الواثق :ومايريد الفاعل المتخفي بظلام الليل؟
يريد لذّة عابرة يسرقها من صحبه في خفية منهم وإنّي استدرجه بها مكشوفة حتى تغويه فإذا اشتدت به الغواية وأعمته وأقبل إقبال السكران يريد ولا يعقل مسكتموه إمساك العجوز للصّ فيكون النصر
قال الراوي :حدّثنا أحد الثقات قال .اختلف الرواة في نهاية الخطّة وماكان من أمر الشاب المتطوّع الذى فدى صحبه أمّا عم مصباح فقد أورد حديثا لم يذكره آخرون من قبله وهو حديث غريب غير ضعيف أو موضوع قال :في الصباح تحدّث الجند عن شيطان من شياطين المكان لا يعلمه إلا صاحب الأمر والشان فقد قضى الحاجة من صاحب الفكرة وهو يصرخ حمدا لمن جنّبنا المشقّة في الطلب ورزقنا الشهوة بلا جزع أو نصب .
وأضاف الراوي معتبرا :يا أصحاب السمر والليل لكل قصّة عبرة ولكل زمن فتنة وفتنة هذا الزمان الكمائن فاحذروا الكمين وليرع كلّ منكم متاعه وعياله وتجنبوا الاستدراج فإنّه أوقع في الشرّ ولا يطلب الرجل منكم الرزق من متاع غيره ولا ينتظره في غير أجله وصفّق مرتيّن وعلا بالزفير وقال النذير النذير
انصرفوا الليلة ولا تحدثوا بهذا الحديث الصبية ولا تكتبوه واكتموه.

الجمعة، 1 مايو 2020

المنزع العقلي في الأدب العربي القديم الجاحظ https://www.slideshare.net/sbibadaoudi/4-56033309

رابط الاطلاع والتحميل والنشر

https://www.slideshare.net/sbibadaoudi/4-56033309



الرسالة..مغامرة رأس المملوك جابر

الرّسالة

التمهيد: لا يمثّل هذا النصّ خاتمة المسرحيّة بقدر ما يمثّل انفتاحا على فضاء القراءة والدلالة ولم يكن الكشف عن محتوى الرسالة عبر خطاب الحكواتي إلاّ إشارة خفيفة لرسالة أخرى خطّت على امتداد المسرحيّة إلى حدّ تتحوّل فيه المغامرة إلى مغامرتين:
-       مغامرة المملوك جابر باعتباره حدثا تاريخيّا يستلهمه الكاتب ويستثمره .
-       مغامرة الكتابة عند سعد الله ونّوس باعتبارها فعلا تجريبيّا اختطّ لنفسه مسلكا عجيبا في الكتابة المسرحيّة أخذ من الغرب مسرحه الملحمي ومن التراث المادّة التاريخيّة وشخصيّة الحكواتي .
وضمن هذا الإطار كانت خاتمة المسرحيّة تأكيد لتلك النزعة الملحميّة وتعبيرا عن رؤية ونّوس الفنيّة والفكريّة فكان الجمهور في خاتمة المسرحيّة شاهدا وشريكا كما كان الحكواتي فعل إمتاع وإيجاع يوقظ وجدان الجمهور وينير عقله لا على وجع بغداد وحدها في متن الحكاية بل على أوجاعهم ويرثي بغداد كما يرثي حالهم وفي المشهد الأخير تتداخل الأصوات وتمتزج الأزمنة في مشهد يوحي بأنّ اللحظة لم تغادر زمانها فنحن هنا وإن ضللّتنا متاهات الحكاية والتّاريخ .إنّ استعارة المغامرة لم تكن إلاّ فعلا تغريبيّا فهو الرّاهن وإن لم ندركه وهو الحاضرّ وقد غيّر الكاتب في ملامحه وبدّل في صوره خلقا لمسافة وعي يدرك من خلالها الجمهور مساحة التشابة بين الليلة والبارحة فالعجم هم العجم فعل دمويّ وحضور همجيّ قاتم وقاتل في الفضاء العربيّ والنّاس هم النّاس أموات في صراع لم يدركوا شروطه ولا أهدافه والسّاسة هم السّاسة يبيعون الأوطان والخيانة هي الخيانة شهوة السلطة وقسوة النهاية.
كاتن المشهد الأخير اعتصارا للحكاية كما كان اعتصارا للدلالة فالمكان متداخل فلا حيّز يفصل بين ركح التاريخ وركح المقهى وكذلك الشخصيّات أمّا الحكواتي فله في النهاية شأن إذ زال عنه الهدوء وغاب عنه الحياد وخطب في الناس خطابا لعلّه يوقظ وعيا ويثير وجدانا.
الموضوع: الكشف عن موضوع الرّسالة ورثاء بغداد.
المقاطع: ينقسم النصّ إلى مقطعين:
-       خطاب الحكواتي.
-       خطاب بقيّة الشخصيّات.
1-    خطاب الحكواتي: تميّز خطاب الحكواتي بسمتين فقد كان خطابا حكائيّا سرديّا ثمّ تحوّل إلى صوت جماعيّ يحرّض ويدفع الجمهور من خلال مصير جابر ومصير بغداد إلى إدراك مواضع الخلل ومواطن الفساد... (الكشف عن أسباب الهزيمة )
·        الخطاب الحكائي: انتقل فيه الحكواتي من الكشف عن مضمون الرّسالة إذ يعبّر فعل الكشف عن أمرين أمّا الأوّل فمن صميم الفعل الدّرامي إذ مرّت مغامرة المملوك جابر في بنائها الحكائي ( الفعل الدّرامي ) عبر ثنائيّة الغموض والكشف وعبر فعل الغموض تتأكّد عناصر التشويق وشدّ الجمهور إلى مسار الحكاية ومسيرة الشخصيّة ولم تكن نهاية المملوك جابر الحكواتي حسب حلاّ لغامض المغامرة بل إنّ مضمون الرّسالة هو الّذي دفع بالشخصيّة إلى نهايتها كما دفع بالدلالة إلى أشدّ معانيها وأعمقها في مسرحيّة ونّوس إذ تؤكّد الرّسالة وجها نقيضا لما تعوّده الجمهور من شخصيّة جابر .لقد كان القاتل الحقيقي هو جابر وكانت النهاية محاكمة لفعل الخيانة وتوجيه للجمهور للجريمة الحقيقيّة.
·        الحكواتي ورثاء بغداد: كان من أكثرها إطالة وشدّها إيغالا في البعد التأثيري ولم يكن خطابا محايدا كما كان الحكواتي في كل خطاباته ( الحياد البارد).كان خطابا رثائيّا متفجّعا ( كان يوما مروّعا لم تشهد بغداد مثله , عمّ الحزن وانتشر الموت كالهباء , ذلك اليوم هبط الليل على بغداد مبكرا) لقد عمّقت الإشارة الركحيّة تلك النبرة الرثائيّة ففي فضاء الرّكح صوت خبب وصليل السيوف والتداخل بين المحكيّ والمرئيّ يعمّق أبعاد المأساة وينقل الجمهور عبر حدّة الفعل وقسوة المشهد من نهاية إلى نهاية , من نهاية المملوك جابر إلى نهاية أهل بغداد لقد أراد الحكواتي كما سعد الله ونّوس أن يؤكّد أنّ المأساة الحقيقيّة هي مأساة أهل بغداد التي على الجمهور أن يرتاع لمصيرها وهذا على نحو ما هو فعل تغريبي أراد من خلاله سعد الله ونّوس أنّ يغيّر في منظور التلقّي من نهاية الفرد الطامح إلى تحقيق أحلامه إلى نهاية الجماعة.
إنّ التداخل بين الرّكحين والفضاءين  والحكايتين تحيين للتاريخ وتأكيد على أنّ فهم التاريخ وإخلالاته وهزائمة شرط من شروط الوعي .
2-     خطاب بقيّة الشخصيّات:  من فضاء التاريخ ينتقي ونّوس شخصيّاته ومن عمق المأساة وخراب بغداد يبعث بعض شخصيّاته فعلا عجائبيّا ( ينهض الرّجل الرّابع من بين القتلى ويقف قرب الحكواتي ,بعد قليل تظهر زمرّد في الطرف الآخر يتقدّم ثلاثة من الزّبائن تتوسّطهم زمرّد التي تحمل الرّأس بين يديها ووراءهم كوم من الجثث ). على نحو من المشهد الفاجع يتسرّب الخطاب وتتحوّل الرّسالة من حكاية تاريخيّة إلى رسالة إلى كلّ العصر .كان الرّجل على امتداد الحكاية في فضاء التاريخ صورة للمثقّف الذي أنهكته السلطة وامتحنت فيه مواضع قمعها كان صوتا خفيّا يدرك محدوديّة مداه فأخرجه الحكواتي من موته وبعثه من بين القتلى لعلّه يبلغ ويبلّغ أمّا زمرّد فصرة للحبّ والصفاء والقيم العربيّة الأصيلة هي تلك المرأة التي أشارت على امتداد الحكاية إلى مواطن الحمال في الحضارة العربيّة الاسلاميّة وهو من مدلول اسمها جوهر نفيس وأصيل ولعلّها على نحو ما حضارة العرب خانها أهلها عبر فعل لم يدركوا مآلاته وأمّا امتداد الصوت الجماعي من فضاء الحكاية إلى فضاء الواقع فيشير إلى أمرين :
-       ما كان ميسما للمسرح الملحمي من خلال كسر الإيهام وفعل التغريب وتشريك الجمهور .
-       ما يتعلّق بمسرح التسييس ففيه دعوة للجمهور ليدرك مكامن الأزمة ومواطن الفساد
                                                                                

المصير الفاجع..سعد الله ونوس

المصير الفاجع :
3- التداخل بين الركحين ( الحوار بين المساحتين).
الحوار : كان حوارا متعدّدا جمع بين الحكواتي والزبائن والسيّاف.
الزبائن: قام حوارهم على المرواحة بين الخبر( النفي – التأكيد) والإنشاء ( الاستفهام – التعجّب )
التعاطف والشفقة والإنكار .
ورد في المسرحيّة ما يثير الانتباه فقد مثّلت شخصيّة الزبون الرّابع تجاوزا للموقف الجماعيّ وكذلك شخصيّة الرّجل الرّابع الذي كان صوتا نشازا يختلف عن العامّة ولعلّ في هذا الاختلاف ما يوحي بوظيفة الفنّ المسرحي ( الفنّ الرّابع) فالفنّ المسرحي في رؤية سعد الله ونّوس له أن يضطلع بوظيفة التنوير والتثوير وإيقاظ العقول ومساءلة السائد ومحاكمة الواقع.
خطاب السيّاف:
يتحوّل السيّاف من الصمت والهدوء إلى مخاطبة الجمهور خطابا يختزل المغامرة ويجملها ويشير السيّاف في خطابه للزبائن إلى أشدّ مواطن المفارقة في مغامرة المملوك جابر( الوهم والحقيقة ) ومن تلك المفارقة تنشأ المأساة وخطاب السيّاف إنّما يجسّد فعل الزمن وحتميّة التاريخ ويوقظ في وعي الجمهور تلك الأسئلة التي تجاهلها المملوك جابر فبين الموت وهذه العودة المسافة سؤال ( الحكواتي : ولم يسأل السؤال )
لقد أشار السيّاف إلى تلك المناطق التي لم يتسرّب إليها سؤال الجمهور ولم ترتدها حيرته .فقد موّه الحكواتي كما سعد الله ونّوس شخصيّة جابر (الذكاء.الفطنة .المرح) فكانت النهاية صادمة وفاجعة وعلى عتبات النهاية يتوقّف الجمهور عند أسئلة الحكاية وتبدأ أسئلة القضايا والدلالات ولعلّ اهمّها:
-       لماذا تخيّر سعد الله ونوس مغامرة المملوك جابر مادّة دراميّة استلهمها من التراث أي لماذا التقط ونوس من ذلك المدى التاريخي المشبع بالانتصارات ,لماذا التقط مرحلة الهزيمة؟
-       يجيب سعد الله ونوس عن سبيب تخيّره لمغامرة راس المملوك جابر لانّه يتعمّد إثارة السلبيّة وتضخيم موضع الخلل في الواقع السياسي والاجتماعي فمسرح التسييس هو ذلك السؤال الجارح والمشهد المؤلم الفاجع الذي يتجاوز احتفالات النصر (دأب كثير من الكتّاب المسرحيين على انتقاء لحظات النصر التاريخي وترويجها لدى الجمهور كشكل من أشكال تعمية الواقع وتمويهه).
-       إنّ ما يخشاه ونوس هو أن يتحوّل مسرح التسييس إلى شكل من أشكال " الوعي الجاهز " أي ذلك المسرح الذي يقدّم الإجابة ويمتع الناس ويجيب عن حاجاتهم في حين أنّ جوهر مسرح التسييس هو الإشارة إلى مواضع الخلل والوجع ( إيقاظ عقول الناس وتنويرها).
-       الإيماء شكلا من أشكال التغريب: " يتمّ ذلك إيمائيّا وأمام المتفرّجين " في إطار الاستفادة من المسرح الملحمي وعبر تكثيف عناصر التغريب لجأ ونوس كشكل إخراجي إلى تجسيد بعض المشاهد إيمائيّا مثل حلق الرأس ,رحلة المملوك جابر إلى بلاد العجم, قطع الرأس, ثمّ خراب بغداد " ويمثّلون إيمائيّا أو هتك العرض" .
-       إدماج الجمهور في العرض المسرحي وكسر الجدار الرّابع : أشكال التغريب تساهم في تحقيق حلم ونوس في مسرح شعبي حيّ وفعّال.
-       تعميق البعد التراجيدي في نهاية المسرحيّة وفتح النهاية على مداليل المغامرة فشخصيّة جابر ضحيّة لاختياراتها الوصوليّة والانتهازيّة .فما لم يدركه جابر هو ذلك الحدّ الفاصل بين الشرف والخيانة والسعادة والفاجعة "بين الموت والعودة مسافة سؤال : ولم يسأل السؤال "
-       يقول سعد الله ونوس : " الصورة التي هزّتني وأثّرت فيّ وبالتالي انعكست في أعمالي هي صورة الانسان العربي المهزوم والمقهور الذي يلتمس إمكانيّة أن يتفتّح وأن يحمل قدره بنفسه ولكنّه لا يجد حوله إلاّ الصعوبات والعراقيل والآكاذيب ,عراقيل سببها بالدرجة الاولى الوضع السياسي الذي يعيش فيه سببها القمع المنظّم الطويل الذي خضع له سببه أيضا شراسة القوى الخارجيّة التي تحاول هزيمته ومنعه من أن يتفتّح ويحمل قدره بنفسه" ويشير سعد الله ونّوس إلى وجوه الاختلاف بين المسرح التقليدي ومسرح التسييس ( مسرح بناء الوعي ) " يأتي الجمهور وهو يحمل أحزان يومه وهموم حياته فنمتصّ نقمته على الواقع ونحوّلها إلى ضحكات تملأ فراغ الصّالة ولا يتجاوز تأثيرها عتبة النفس والمسرح ونفرغه من شحنة غضب كان يمكن أن نوجّه إليها سهاما ونفجّرها في ذاه نارا حارقة".


انتهى اليوم جهادي..المسعدي


انتهى اليوم جهادي

التمهيد: " ما تناسى المرء الجسد إلاّ أكلته الخيالات" والغريب في تجربة الروح والإيمان أنّ أبا هريرة قد أحيا في ظلمة ما افتقدته من عالم الإنسان وأعاد إليها وجودها فكأنّها الحياة تبعث من جديد : عودة إلى الجسد واتصال بالإنسان في بعده الأرضي وانفصال عن وهم التشبّه بالإله ومن عجيب أبي هريرة في رحلته أنّه صعد الجبل تبرّؤا من عالم النّاس فإذا عالم النّاس في أعلى الجبل كأنه لم يبرحه .
الجهاد في كتابات المسعدي عبارة من صميم رؤيته الوجوديّة تلتقي مع معاني الثورة والتمرّد والفعل والإرادة والخلق وهو في ذلك يصيب دلالة تخرجه من معنى الخضوع والاستسلام وتلقي به في مغامرة الوجود . والجهاد مكابدة النفس ومغالبتها وترفّع عن منزلة الإنسان وعلوّ بها . والجهاد فعل متجدّد وجهد دائب وخلق مستمرّ لا تثنيه عقبة ولا ينهيه فشل .لقد أدرك أبو هريرة من خلال تجربة الرّوح أنّ للانسان أبعادا لا تلغى وأنّ الجسد صنو الرّوح وحضنها إذا فني ففنيت معه الرّوح بعدان متلازمان متعايشان على قلق يكدّ بعضهما كدّا وفي تجربة الروح رفعت حجب الإيمان وكان اليقين .
لئن كانت رواية أبي هريرة " حدّث أبو هريرة قال..." رواية وجوديّة فإنّها لا تلغي بعض الأبعاد الحافّة لمسألة الوجود والكيان ففي تجربة الجماعة أشار المسعدي إلى واقع المجتمع التونسي زمن الاستعمار وواقع المثقّف وعجزه عن التغيير الاجتماعي. وفي تجربة الرّوح أشار المسعدي إلى بعض المتصوّفة الذين ألغوا الجسد والحياة .


واقتضاني الصّفاء

* لئن كانت الشخصيّات في حدّث " أبو هريرة قال..." أبعادا لشخصيّة البطل في الرّواية تشير كلّ منها إلى عناصر الانسان حسّا ( ريحانة ) وروحا ( ظلمة ) وحضورا اجتماعيّا وعملا ( الجماعة ) وعقلا ( أبو رغال) فإنّها في نصّ الرواية شخصيّات لها حضورها وتجربتها ورؤاها بعيدا عن شخصيّة أبي هريرة ومغامراته فلريحانة وجود نصّيّ ولها رؤية وجوديّة قبل أن يلتقيها أبو هريرة فتعلّمه الجسد ومتعته وكذلك شخصيّة ظلمة لها تجربتها ( التخلّص من الجسد وطلب المطلق ).

حديث الغيبة ..المسعدي

حديث الغيبة
التمهيد: حديث الغيبة تطلب فلا تدرك هو الحديث السّابع عشر من أحاديث رواية " حدّث أبو هريرة قال..." وكان إطلالة على تجربة أخرى من تجارب أبي هريرة في مغامرته الوجوديّة وكان استعادة لهوس الترحال بعد أن سكن هاجس السؤال في" حديث العمى "و "حديث الحمل "  والبيّن في مسيرة البطل توقه إلى التسامي فمسار الرحلة اتّباع للعلوّ ورقيّ ينأى عن الأرض ويتحرّر من الجسد في حركة تطلب الرّوح أو الغيب والمطلق وهذا من شأن فلسفة المسعدي ورؤيته الوجوديّة والفلسفيّة حيث يتردّد الإنسان في مأساته بين الحيوانيّة والألوهيّة إذ تقع منزلته وسطا بين حاجة الجسد ومقتضى عالم الأرض وحاجة الرّوح ومقتضى عالم السّماء ولعلّ قسوة الوجود ومأساة الإنسان في أدب المسعدي هو ذلك التردّد بين قطبين متعارضين.
- كان نصّ المسعدي "حدّث أبو هريرة قال ..." نصّا مفردا في صيغته طريفا في أساليبه ولكنّه على وحدانيّته وبدعته كان نصّا جمعا اجتمعت فيه الرّوافد ففيه بعض من أصول التراث وبعض من صميم الديانة الإسلاميّة وشيء من روافد الفلسفة والحكمة القديمة وبعض من العود إلى الديانة المسيحيّة. وبعض روافده الفلسفة الوجوديّة المعاصرة ولعلّ طرافة النصّ في هذا التعدّد الذي أفرد أثرا أدبيّا اختصر رحلة الإنسان فكرا وكتابة ففيه إحياء لمسالك الحكاية في التراث العربي وفيه انفتاح على مشاغل الكتابة الروائيّة المعاصرة وفي صميمه فكرة الوجود الإنساني ومنزلته.
- لئن كان التيّار الوجودي فلسفة أو كتابة أدبيّة نزيل رؤى الغرب في نشأته وإبداعه فقد حرّك فيه المسعدي هواجس الإنسان العربي المسلم فلم يكن الوجود في أدب المسعدي عبثا محضا أو خواء دائما أو زيفا متحقّقا أو فناء خالصا وإنّما كان الوجود توقا متجّددا إلى الفعل وإرادة متعاودة تتجاوز الفشل وتستهويها المغامرة وتغريها غواية التجراب فكانت رحلة بطل الرواية شوقا إلى المطلق. هكذا كانت نهايات أبطال المسعدي في أغلب رواياته مزيجا عجيبا جمع بين شوق الصوفيّ إلى الحلول في ذات المطلق  واعتقاد المؤمن من أنّ الحقيقة تقع في حيّز يتجاوز الجسد والمكان والزمان .




1- تجربة الرّوح:
- في دلالة المكان والشخصيّات
" الدير كان في منعة من الجبل كما كان منفصلا عن الأرض "
-       في دلالة المكان:












-       في دلالة الشخصيّات
* ظلمة

- يوحي المكان بالرّافد المسيحيّ فهو مكان تعبّد وتزهّد ونسك ينقطع فيه النسّاك والعبّاد عن عالم الأرض والنّاس ويتّخذون من الجبل مكانا عليّا لعلّهم يطّلعون على عالم الغيب .ومن خلال صورة المكان تتراءى بعض معالم تجربة الروح في مسيرة أبي هريرة الوجوديّة فهي انفصال عن الناس وانقطاع عن الدنيا ولذائذها ومتاعها ومتاعبها ويمثّل العلوّ توقا إلى السمّوّ حيث يعلو أبو هريرة ويرفع ذاته بعيدا عن رذائل الوجود فكانّ صعود أبي هريرة إلى مكان عليّ في جبل إنّما يشير إلى إرادة التطّهّر ونقاء الذات وصفاء الرّوح فهي رحلة البحث عن وجود بلا ذنب ولا خطيئة  
( النقاء) حيث يتحرّر الإنسان من بعده الحيواني ويلغي بعده الجسدي
 ...( البعد الغريزي ) فهو في تجربة الرّوح داء الإنسان وعلّته ولذلك كان الانفصال عن الأرض.


لئن انتهت تجربة الحسّ (الجسد ) بالانفصال عن ريحانة رمز الحياة وطيبها فقد التقى أبو هريرة المرأة الثانية في عالم غير عالم الأرض ومتعته هو مكان في موضع تستهويه السّماء وتطرده الأرض ( قمّة الجبل ). أمّا دلالة الاسم فتوحي على نحو من تلك الرّموز التي أشاعها المسعدي في ثنايا الكتابة ومن وحدة الجذر يلتقي الظلام والظلم وفي الظلام موت واستكانة فلا نور, زمن يقع نقيضا لذلك الفجر الذي أغوى أبا هريرة بالحياة ( حديث البعث الأول ) وأمّا لظلم ففيه انقطاع عن الحياة واستقصاء للموت وظلم للجسد وقتل لنوازعه .
كان مثار رحلة أبي هريرة سؤال يطلب جوابه (" فقلت ما بك ؟ قال : سؤال أطلب جوابه أريد أن أعرف أيّهما أصدق وجودا الله أم الشيطان ؟) وهنا يتكثّف الرمز محيطا بعبارتي الله والشيطان فالله رمز للخير المطلق والنقاء الجوهري وأما الشيطان فرمز للشرّ المطلق حيث الإثم والخطيئة .اختار أبو هريرة في رحلته تجربة الرّوح سفرا إلى الله أو سفرا إلى الخير المطلق فاعتلى الجبل على مشقّة منه وارتاد مكانا عليّا متطّهرا من ثقل الأرض وانشداد الجسد إليها لعلّه يظفر بحقيقة طالما ترحّل في الوجود يستقصيها ويطلبها وفي سؤاله قتل أبو هريرة ماضيه ( تجربة الحسّ وتجربة الجماعة ) فهل يتمكّن أبو هريرة من فناء الحسّ وهل يتمّكن من قتل الإنسان فيه وإحياء الإله؟