التمهيد: لا يمثّل هذا النصّ خاتمة المسرحيّة بقدر ما يمثّل
انفتاحا على فضاء القراءة والدلالة ولم يكن الكشف عن محتوى الرسالة عبر خطاب
الحكواتي إلاّ إشارة خفيّة لرسالة أخرى خطّت على امتداد المسرحيّة إلى حدّ تتحوّل
فيه المغامرة إلى مغامرتين:
-
مغامرة المملوك جابر باعتباره حدثا تاريخيّا يستلهمه الكاتب ويستثمره .
-
مغامرة الكتابة عند سعد الله ونّوس باعتبارها فعلا تجريبيّا اختطّ لنفسه
مسلكا عجيبا في الكتابة المسرحيّة أخذ من الغرب مسرحه الملحمي ومن التراث المادّة
التاريخيّة وشخصيّة الحكواتي .
وضمن هذا الإطار كانت خاتمة المسرحيّة تأكيدا لتلك
النزعة الملحميّة وتعبيرا عن رؤية ونّوس الفنيّة والفكريّة فكان الجمهور في خاتمة
المسرحيّة شاهدا وشريكا كما كان الحكواتي فعل إمتاع وإيجاع يوقظ
وجدان الجمهور وينير عقله لا على وجع بغداد وحدها في متن الحكاية بل على أوجاعهم
ويرثي بغداد كما يرثي حالهم وفي المشهد الأخير تتداخل الأصوات وتمتزج الأزمنة في
مشهد يوحي بأنّ اللحظة لم تغادر زمانها فنحن هنا وإن ضللّتنا متاهات الحكاية
والتّاريخ .إنّ استعارة المغامرة لم تكن إلاّ فعلا تغريبيّا فهو الرّاهن وإن لم
ندركه وهو الحاضرّ وقد غيّر الكاتب في ملامحه وبدّل في صوره خلقا لمسافة وعي يدرك
من خلالها الجمهور مساحة التشابة بين الليلة والبارحة فالعجم هم العجم فعل دمويّ
وحضور همجيّ قاتم وقاتل في الفضاء العربيّ والنّاس هم النّاس أموات في صراع لم
يدركوا شروطه ولا أهدافه والسّاسة هم السّاسة يبيعون الأوطان والخيانة هي الخيانة
شهوة السلطة وقسوة النهاية.
كان المشهد الأخير اعتصارا للحكاية كما كان اعتصارا
للدلالة فالمكان متداخل فلا حيّز يفصل بين ركح التاريخ وركح المقهى وكذلك
الشخصيّات أمّا الحكواتي فله في النهاية شأن إذ زال عنه الهدوء وغاب عنه الحياد
وخطب في الناس خطابا لعلّه يوقظ وعيا ويثير وجدانا.
الموضوع: الكشف عن موضوع الرّسالة ورثاء بغداد.
المقاطع: ينقسم النصّ إلى مقطعين:
-
خطاب الحكواتي.
-
خطاب بقيّة الشخصيّات.
1- خطاب الحكواتي: تميّز خطاب الحكواتي بسمتين فقد كان
خطابا حكائيّا سرديّا ثمّ تحوّل إلى صوت جماعيّ يحرّض ويدفع الجمهور من خلال مصير
جابر ومصير بغداد إلى إدراك مواضع الخلل ومواطن الفساد... (الكشف عن أسباب الهزيمة
)
·
الخطاب الحكائي: انتقل فيه الحكواتي من الكشف عن مضمون الرّسالة إذ يعبّر
فعل الكشف عن أمرين أمّا الأوّل فمن صميم الفعل الدّرامي إذ مرّت مغامرة المملوك
جابر في بنائها الحكائي ( الفعل الدّرامي ) عبر ثنائيّة الغموض والكشف وعبر فعل
الغموض تتأكّد عناصر التشويق وشدّ الجمهور إلى مسار الحكاية ومسيرة الشخصيّة ولم
تكن نهاية المملوك جابر الحكواتي حلاّ
لغامض المغامرة بل إنّ مضمون الرّسالة هو الّذي دفع بالشخصيّة إلى نهايتها كما دفع
بالدلالة إلى أشدّ معانيها وأعمقها في مسرحيّة ونّوس إذ تؤكّد الرّسالة وجها نقيضا
لما تعوّده الجمهور من شخصيّة جابر .لقد كان القاتل الحقيقي هو جابر وكانت النهاية
محاكمة لفعل الخيانة وتوجيها للجمهور إلى الجريمة الحقيقيّة.
·
الحكواتي ورثاء بغداد: كان من أكثرها إطالة وشدّها إيغالا في البعد التأثيري
ولم يكن خطابا محايدا كما كان الحكواتي في كل خطاباته ( الحياد البارد).كان خطابا
رثائيّا متفجّعا ( كان يوما مروّعا لم تشهد بغداد مثله , عمّ الحزن وانتشر الموت
كالهباء , ذلك اليوم هبط الليل على بغداد مبكرا) لقد عمّقت الإشارة الركحيّة تلك
النبرة الرثائيّة ففي فضاء الرّكح صوت خبب الخيل وصليل السيوف والتداخل بين
المحكيّ والمرئيّ يعمّق أبعاد المأساة وينقل الجمهور عبر حدّة الفعل وقسوة المشهد
من نهاية إلى نهاية , من نهاية المملوك جابر إلى نهاية أهل بغداد لقد أراد
الحكواتي كما سعد الله ونّوس أن يؤكّد أنّ المأساة الحقيقيّة هي مأساة أهل بغداد
التي على الجمهور أن يرتاع لمصيرها ويلتاع لخرابها وهذا على نحو ما هو فعل تغريبي
أراد من خلاله سعد الله ونّوس أنّ يغيّر في منظور التلقّي من نهاية الفرد الطامح
إلى تحقيق أحلامه إلى نهاية الجماعة.
إنّ
التداخل بين الرّكحين والفضاءين
والحكايتين تحيين للتاريخ وتأكيد على أنّ فهم التاريخ وإخلالاته وهزائمة
شرط من شروط الوعي .
2- خطاب بقيّة الشخصيّات:
من فضاء التاريخ ينتقي ونّوس شخصيّاته ومن عمق المأساة وخراب بغداد يبعث
بعض شخصيّاته فعلا عجائبيّا ( ينهض الرّجل الرّابع من بين القتلى ويقف قرب
الحكواتي ,بعد قليل تظهر زمرّد في الطرف الآخر يتقدّم ثلاثة من الزّبائن تتوسّطهم
زمرّد التي تحمل الرّأس بين يديها ووراءهم كوم من الجثث ). على نحو من المشهد
الفاجع يتسرّب الخطاب وتتحوّل الرّسالة من حكاية تاريخيّة إلى رسالة إلى كلّ العصر
.كان الرّجل الرابع على امتداد الحكاية في فضاء التاريخ صورة للمثقّف الذي أنهكته
السلطة وامتحنت فيه مواضع قمعها كان صوتا خفيّا يدرك محدوديّة مداه فأخرجه
الحكواتي من موته وبعثه من بين القتلى لعلّه يبلغ ويبلّغ أمّا زمرّد فصورة للحبّ
والصفاء والقيم العربيّة الأصيلة هي تلك المرأة التي أشارت على امتداد الحكاية إلى
مواطن الجمال في الحضارة العربيّة الإسلاميّة وهو من مدلول اسمها جوهر نفيس وأصيل
ولعلّها على نحو ما حضارة العرب خانها أهلها عبر فعل لم يدركوا مآلاته وأمّا
امتداد الصوت الجماعي من فضاء الحكاية إلى فضاء الواقع فيشير إلى أمرين :
-
ما كان ميسما للمسرح الملحمي من خلال كسر الإيهام وفعل التغريب وتشريك
الجمهور .
-
ما يتعلّق بمسرح التسييس ففيه دعوة للجمهور ليدرك مكامن الأزمة ومواطن
الفساد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق