العيد
كان ذلك آخر ما تبقى
..وأشارت إلى واحدة يتبعها خروفان في ركن من زريبة اجتهدت في رصّ أخشابها وملء
ثغراتها بأشواك شجر السدر حتى لا تجوزها الذئاب من الناس والحيوان..دخل التاجر
ومعه ثلاثة من أبنائها وأحاطوا بأحد
الخروفين حتى تمكّنوا من مسكه ثمّ ألقوا به في عربة السيّارة وقبل أن يأخذ التاجر
مقعده سألها أن تبيع له الثاني ولكنّها
رفضت وهي تقول "ذلك هو عيد أبنائي"..
..ما تبقى هو كلّ ما ترك
زوجها الرّاحل منذ خمس سنين ..عشرة أغنام أو يزيد قليلا أكلتها السنوات الخمس كما
أكلت من عمرها حتى لم يعرفها الناس وكانت إذا سئلت عن تغيّر حالها وذهاب شبابها
نظرت مزهوّة إلى أبنائها الثلاثة وفي صوت يملؤه الفخر أجابت "هؤلائي جنّتي
وشبابي وفرحتي.."
ترك لها ثلاثة من الأبناء
وبيتا صغيرا في أقصى القرية اجتهدا معا في جمع حجارته وبنائه وكان جنّتهم إلى
حين..ترك لها كثيرا من الذكرى والأحلام الشاردة كالغيوم تسوقها الريح بلا وجهة فهي
كالأقدار تسوق النّاس والأعمار..
كانت تشتغل طول يومها في
البساتين المنتشرة في السهول وتجمع في عملها قليلا من عشب فإذا كان الغروب سارت
حيث ذلك البيت القصيّ من القرية فتلقي بما حملت
إلى أغنامها وتأتي صغارها تعدّ عشاءها وتسألهم عمّا صنعوا في
المدرسة..كانوا كلّ عالمها وكلّ أحلامها ولا ترضى أن ترى في وجوهم علامة الفقر أو اليتم وكانت تجتهد في
إرضائهم وتنظر إلى صغار الأهل في لباسهم وتأتي لأبنائها بما يماثله أو يزيد وإنّها
لتحزن كثيرا إن سألها أبناؤها شيئا لا تقدر عليه..تتوالى أيّامها متشابهات وينمو
الحلم في الصغار مع نموّ أجسادهم وتكبر الأمّ ولكن لا تهزمها الأيام ولا تعجزها
الحياة وكانت إذا اشتدّ بها التعب أياما أعانتها ابنتها البكر في ما كانت تعمل
باقي أيّامها وقد يجود بعض الخيرين من أهل زوجها ببعض مال أو طعام ولكنّها ترفض
فإذا ألحّوا في الطلب نهرتهم ..
الكبرياء بعض من قليل ورثته
عن زوجها وتأبى إلاّ أن تورّثه إلى أبنائه فنلك وصيّته وإنّها تحملها حمل الآمانات
فلا تنسى..
السنوات تأكل من جسدها ومن
أغنامها فكلمّا اشتدّ بها الحال باعت بعضا من خرافها أو شياهها وإنّها لتدخل بيتها
حزينة مذعورة تخشى القادم من الأيّام ولا تريد أنّ تحدّث أبناءها بحديث الجوع
والحاجة..
كان ذلك قبل العيد بيومين
وكانت ليلة مظلمة قاسية البرد ريحها شديدة عاوية ..أغلقت الباب والنافذة جيّدا
وألقت ما في البيت من أغطية على صغارها حتى لا يتسرّب إلىهم البرد وأحذنها غفوة
النوم حتّى كان الفجر..سارعت إلى تفقّد الزريبة فلم تر ذلك الخروف الذي أبقته لعيد
أبنائها..فقط شاة واحدة جفلة في ذلك الركن ..دخلت الزريبة فزاد يقينها وعوت في
صدرها الأوجاع..عادت إلى بيتها تترقّب نور الشمس الأوّل حتّى كان فسارت في كلّ
سبيل واتّبعت آثار الأقدام لا تدلّها على وجهة وابتعدت في مسالك الرّعاة في الهضاب
البعيدة فلا أثر..
لم تخبر صغارها وأعدّت لهم
ما كانت تعدّه من طعام ولاحقتهم بأعينها حتى غابوا عنها في مسارب المدارس وعادت
إلى بيتها وحيدة تقول نحيبا وتروي لنفسها حكاية الأوجاع..في صباح ذلك العيد تهيّا
الصغار لذبح الخروف واقتربوا من الزريبة يريدون إخراجه فأشارت عليهم الأم بإخراج
الشاة ودعت صغيرها إلى دعوة أحد الرجال من أقرباء زوجها لذبحها..لم تعد تسمع ذلك
الرّجل وهو يدعو ابنها إلى مساعدته في ذبح الشاة ..ولم تعد تسمع حركة الشاة تطلب
الحياة بعد ذبحها..فقط وجيف الصدر يحدّثها عن أيّام الجوع القادم ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق