النهضة وفقه المناورة السياسيّة
الجزء الرّابع
محمد المولدي الداودي
الانتخابات: محنة الاختيار وبلوى الاختبار .
كان مؤكّدا فوز حزب حركة النهضة في الانتخابات التشريعيّة ليوم 23/10/2011 لأنّه الحزب الأكثر تنظيما والأقدر على تعويض القدرة الهيكليّة للحزب المنحلّ وأثبت الحزب عمقا شعبيّا ثاويا في المدائن والقرى والأحياء سرعان ما أظهرته الانتخابات غير أنّ الفوز في الانتخابات التشريعيّة بتلك النسبة التي لم يتوقّعها كثير من محترفي السياسة في الدّاخل والخارج أعاد طرح أسئلة الحكم على حركة سياسيّة لم تتجاوز في تجربتها عتبات السجون والمنافي ولم تتحمّل في مسيرتها السياسيّة مسؤوليّة الحكم أو المعارضة العلنيّة والمنظّمة وظلّت قدرتها على فهم التحوّلات الكبرى التي أصابت البناء المجتمعي والبناء التنظيمي للدولة عاجزة عن ملامسة مراكز الفعل ومحاوره الأساسيّة فالإسلاميّون في تونس لم يكونوا مكوّنا بنائيّا في الدولة بقدر ما كانوا مادّة بشريّة تختبر فيها مؤسسات الدولة قدرتها على الرّقابة والتسلّط والقمع.كانت نتائج الانتخابات التشريعيّة في 2011 مشهدا "سيرياليّا" تمتزج فيه عناصر العبث التاريخي والغرائبيّة الأسطوريّة التي تتجاوز منطق التاريخ وتلازماته الشرطيّة .
غمرة الاحتفال بالنصر أضاعت كثيرا من ملامح العقل ونشوة الفوز أذهبت الشعور بمحنة الاختيار ولم يستوعب " المنتصرون" سؤال الحكم ولم يدركوا غضب " المهزومين".
حاولت حركة النهضة في حملتها الانتخابيّة سنة 2011 الاستجابة لأفق انتظار أطياف شعبيّة مختلفة في المنطلقات ومتباينة في المقاصد ولم تدرك النهضة معالم النشاز في مجموع ناخبيها الذين تجاوزوا المليون وثلاثة مائة ألف ناخب .
أعدّت النهضة ككلّ الأحزاب المشاركة في الانتخابات التشريعيّة برنامجا انتخابيّا حوى 365 نقطة توزّعتها محاور اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة وثقافيّة ...وحاولت من خلاله الظهور بمظهر الحزب السياسي القادر على الحكم كما حاولت الاستفادة من الشعار الثوري وتحويله إلى خطاب انتخابيّ كالوفاء للثائرين والشهداء عبر تحقيق مطالبهم وشاع في المهرجانات الانتخابيّة لرؤساء قوائم النهضة في الجهات الجمع بين فكرة الثورة وفكرة الثروة وأضحى الحديث عن دولة العدل والرّفاه ثابتا من ثوابت الدعاية السياسيّة يتلّقاها التونسيّ في كلّ مهرجان خطابيّ لحزب حركة النهضة.
لم تكن مسألة صياغة الدستور الجديد جليّة في الخطاب الدّعائي للحركة في حملتها الانتخابيّة وتنامى الشعار التنموي والاجتماعي وسقطت النهضة في طرح مسألة الدستور ومناهج الحكم في المهاوي والفخاخ التي أحسنت صنعها وسائل إعلاميّة مازلت أذرع الدولة العميقة الماليّة والإعلاميّة تصنع خطابها ومواقفها.اقتصر الموقف من الدستور في الخطاب الدّعائي للحركة في الحملة الانتخابيّة على إشكاليّة الدولة والهويّة إلى حدّ أغرى بعض قادتها المؤسسين باستعارة " عبارة الخلافة السادسة " .كانت العبارة في عمقها الفكري والوجداني انجذابا للرؤى الأولى التي كوّنت فكر الحركة ومنهجها وأقحمتها في دائرة الرؤية الأصوليّة للإسلام باعتباره منهج حكم ونصّ تشريع.لم تكن الأطياف الشعبيّة في تلك المرحلة من تجربة الانتقال السياسي قادرة على فهم الحدود الفاصلة ومظاهر التمايز بين الحركة وبقيّة التمظهرات الأخرى للفكرة الإسلاميّة وخاصّة التيّار السلفي بشقيّه العلمي( الدّعوي) والحركي (الجهادي).بل إنّ كثيرا من أنصار التيّار السلفي دعوا جمهور الناخبين إلى انتخابات حركة النهضة ضمن خلق مساحة فاصلة بين مكوّنات العائلة الإسلاميّة من ناحية والعائلة العلمانيّة من ناحية أخرى.هل تعمّد قادة الحركة طمس الفوارق الجوهريّة الفاصلة بين الحركة وبقيّة مكوّنات العائلة الإسلاميّة أم أنّ تعدّد الرّوافد واختلافها هو الذي أكسب الحركة هذا الغموض المنهجي في التعامل مع مسألة الإسلام السياسي؟
أكّد كثير من زعماء حركة النهضة وقادتها في خطابهم الإعلامي على الهويّة التونسيّة للحركة وأكّدوا أن حركة النهضة تونسيّة الهوى والمنشأ والرؤية وحاولوا الوصل بينها وبين حركة الإصلاح وأعادوا بعض حلقات تكوينها الوطني والنضالي إلى الشيخ عبد العزيز الثعالبي وكان هاجس تجذير الحركة وتأصيلها في تربة تونسيّة بيّنا في كل الردود التي ألقاها قادة الحركة ردّا على سؤال العلاقة بين النهضة وحركة الإخوان أو بقيّة الأحزاب والحركات المنتمية للعائلة الإسلاميّة العالميّة .
إنّ هذا التشابك والتداخل والتمايز والاختلاف بين مكوّنات عدّة للفكر الإسلامي السياسي والذي استوعبته النهضة وحاولت تذويب عناصر النشاز فيه سيتحوّل إلى عنصر إشكالي في التعريف والتصنيف وسيبقى محورا للجدال السياسي حول الحركة في بعدها المفهومي والبنائيّ .
تجربة الترويكا: تجربة في التجديد السياسي أم هي خضوع لبعض مكاره الحكم؟.
منع القانون الانتخابي ( قانون التمثيل النسبي )من استئثار حزب حركة النهضة بالأغلبية المطلقة ومكّنها من نسبة لا تتجاوز 41 بالمائة وما أفرزته الانتخابات من نتائج أكّد رغبة حركة النهضة في بناء حكم ائتلافي توافقي في المرحلة الانتقاليّة ولم تكن هذه الرغبة محكومة بشروط التوافق الفكري أو السياسي أو التناسب بين البرامج والأهداف وإنّما كانت محكومة بتوازنات حزبيّة أفرزتها الانتخابات التشريعيّة فكانت الترويكا تجربة من تجارب الحكم التوافقي المحكوم بدوره بكثير من معالم الإكراه السياسي الذي تجلّت آثاره سريعا في ذلك الاختلاف في منهجيّة التسيير والتباين في تبويب الأولويّات بالنسبة للأحزاب الثلاثة المكوّنة لأجنحة الحكم في حكومة الترويكا.أصاب الخلل المنهجي في مبدأ التوافق وتناقضاته حزبي المؤتمر من أجل الجمهوريّة وحزب التكتّل من أجل العمل والحريّات وطفت على السطح خلافات جوهريّة كشفت ضعف التحالف ووهن التوافق وبدأت مظاهر التناقض بين أولويّات كل حزب من الأحزاب الثلاثة حاسمة في كشف ملامح الصراع والتنافر .
كانت الترويكا تجربة سياسيّة متسرّعة و ارتجاليّة حكمتها نتائج الانتخابات ولم تكن توافقا حقيقيّا في الرؤية والغايات والمنهج لقد كانت رسالة سياسيّة حاول من خلالها حزب حركة النهضة الإجابة عن أسئلة خصوم السياسة والفكر من الأحزاب التونسيّة وأسئلة الغرب المرتاب من حكم ملوّن بألوان الإسلام السياسي ولذلك بدت عناصر الفشل أقوى من عناصر النجاح واهتزّت في هذه التجربة عناصر الترابط الحزبي لمكونيّن أساسيين هما حزبا المؤتمر والتكتّل وأدركت النهضة عسر المرحلة وغموض المسار.
في تلك المرحلة الانتقاليّة الأولى خاضت حركة النهضة صراعا ثنائيّا استنزف جهدها التنظيمي واستفرغ قدرتها على المناورة فقد واجه نوّاب حركة النهضة في المجلس التأسيسي خصوم السياسة والايدولوجيا وعمّق تفكّك حزبي المؤتمر والتكتّل عزلة الحركة واستعادت تلك الأحزاب معارك الدين والدولة وفي المشهد الحكومي غذّت أحزاب المعارضة المطلبيّة واستعانت بالمنظّمات النقابيّة في توسيع دائرة الاحتجاج الاجتماعي وتجاوزت الخصومة السياسيّة كل حدّ واستعان خصوم النهضة بآلة إعلاميّة تفنّنت في صناعة معارك وهميّة لتحريف المسار واستنزاف الجهد الثوري وتزييف الوعي.
الاغتيال السياسي وفنّ الاستثمار في الدم
لم يكن اغتيال المناضلين السياسيين شكري بلعيد يوم 06/02/2013 والحاج محمد البراهمي يوم 25/07/2013 بالحدث العابر في التاريخ التونسي المعاصر بل لقد أضحى الاغتيال السياسي عنصرا من عناصر اللعبة السياسيّة العنيفة والقاتلة والغامضة التي أعادت رسم مكوّنات اللوحة السياسيّة ضمن إطار من الخوف الذي دفع كل المجموعة الوطنيّة ومنها الأحزاب "الثوريّة" إلى إعادة القراءة في المسارات والمآلات والمنهج والطريقة ...بعد الاغتيال لم تعد الثورة في مفهومها السياسي (قانون تحصين الثورة) ولا الإداري (مقاومة الفساد) ولا الأمني ( الأمن الجمهوري والجيش الوطني ) ولا الاجتماعي(التنمية والعدالة ) هي المستهدفة جذريّا وإنّما استهدفت المكوّنات البنائيّة للدولة ومنها وحدة الشعب والسلم الأهلي وفي تلك المرحلة حاولت النهضة حمل الدولة بيد وحمل الثورة باليد الأخرى وأدركت حكمة السياسة وغلّبت راية الوطن على راية الحزب .
المشهد المصري: العودة إلى دائرة المحنة.
مرّة ثانية يلتقي المشهد السياسي التونسي بالمشهد السياسي المصري ويتناظران ففي 25 فيفري 2011 التقط الشارع المصري في القاهرة صدى الثورة التونسيّة وسار في مساراتها وفي 03/07 /2013وما بعدها التقط الشارع التونسي في باردو صدى الانقلاب المصري واستعار منهجه وأدواته ودفع البعض من خصوم السياسة في تونس المدفوع بمشهد استباحة الدم المصري في الشوارع والساحات دفع فصيلا من المعارضة إلى محاكاة الواقع المصري غير عابئ بتكلفة الدم والإنسان وفي تلك المرحلة تداخلت العناصر المشكّلة للعلامة الانقلابيّة من مكوّنات الدولة العميقة ورموزها السياسيّة وخصوم الفكر والسياسة وأموال الخليج الخائف والمتربّص بالربيع العربي والإعلام المدفوع الأجر ودوائر المخابرات العربيّة والأجنبيّة ومحترفي الإرهاب السياسي والديني...
في تلك المرحلة استفادت حركة النهضة من الدرس المصري القاسي والدّامي وأدركت بحكمة بالغة المسارات وخيّرت السير عبر توازنات دقيقة تحفظ فيها كيان الدولة وكرامة الثورة.
محنة النبتة في أرض صلبة صلدة لا تصلح للنبات ومحنة الفكرة في أرض متحوّلة متحرّكة لا تدرك الثبات ومحنة السياسة فكّ لغة الواقع ومحنة التغيير فهم شروط تحقّقه.
النهضة جماعة واتّجاه وحركة.. هذا مسار التاريخ في حكايتها وهي المحنة والابتلاء في حديث أهلها وهي مدرسة من مدارس الفكر الإسلامي الحديث جرّبت فتنة الفكرة ومحنة الحكم ..وأدركت تلك المسافة الفاصلة بين جاذبيّة الخطاب الإيديولوجي أو السياسي أو الثوري ومعركة البناء الواقعي ..أخطأت أحيانا في تقدير مسافات الفصل والوصل مع بقيّة الأحزاب والمنظّمات والهيئات وأخطأت أحيانا كذلك في اتجاهات السير واكتشاف النهايات ولكنّها لم تخطئ أبدا في عناوين الوطن.
النهضة اليوم جمع من الرؤى الفكرية والدينيّة والسياسيّة يحتاج إلى صهر وصقل وتجربة في الحكم أرست فكرة التوافق تحتاج إلى نضج والنهضة اليوم جسم حيّ عمره خمسة وأربعون عاما أوّله جيل الدعوة وآخره جيل الثورة ....وما بينهما أسئلة التاريخ والإنسان.