ما بعد
الصنم: سؤال الحقيقة والتاريخ ( أوهام الحداثة وزيف الجمهوريّة).
ارتفع تمثال بورقيبة وسط
شارع " الثورة" بتكلفة قاربت 700 مليونا وهلّل كثير وترحّم مبغضوه
بمقدار ما يحتاجه المقام السياسي غير أنّ عودة التمثال ,في شارع عدّه كثير من
التونسيين رمزا لفعل ثوري, أعادت إلى التونسيين حقبة من التاريخ أخفاها غمام
الدعاية وأوهام الزعامة.
بورقيبة "الرمز"
الذي استعاد هذه الهالة من "الرمزيّة عبر عودة التمثال الذي رفعته نفس
الأيادي التي أعادته اليوم ليعبّر ضمن
ثنائيّة إزالته ثمّ إقامته عن مدارات التاريخ التونسي المعاصر وتحوّلاته
وانقلاباته.
الذين أعادوا التمثال (
الصورة الجامدة) لم يقدروا على استعادة بورقيبة الفكرة والرؤية وعبّروا في شكل
طقوسيّ وثني عن اسحضار الرّوح الميتة عبر الصنم ..هكذا فعل الفراعنة حين حنّطوا
حكّامهم وكذلك فعل مشركو العرب حين استعاضوا عن فكرة الإله المجرّدة بصورة مجسّدة
تشكّلت أصناما تعبد من دون الله. المرور من المرجع إلى الفكرة عبر العلامة
الرمزيّة يحتاج قدرة تأويليّة لا تتماثل في نتائجها الدلاليّة عند كلّ النّاس.
فبورقيبة الانسان والرّئيس الذي حكم البلاد التونسيّة لمدّة 30 سنة و أحياه البعض
عبر تلك العلامة الرمزيّة (التمثال) ليس واحدا في وجدان وتفكير كلّ التونسيين.ولذلك
يختلف الفعل الطقوسي المحيط بهذه العلامة الرمزيّة ( التمثال) باختلاف معتقدات
التونسيين وأفكارهم وترابطهم الوجداني الذي يتجلّى حالما يتجلّى التمثال في شارع
الثورة تماما كالأفعال الطقوسيّة في الديانات القديمة.تمثال بورقيبة الذي ينتصب في
نهاية شارع الثورة قد يطوف به أنصاره مهللّين بحمده ذاكرين له فضله ومذكّرين
الغافلين من النّاس بأمجاده وأفعاله..أمّا الآخرون فقد يزورنه زيارة اللاّعنين
فيرجمونه كما ترجم الشياطين..بورقيبة ليس واحدا في وجدان التونسيين ولا في أفكارهم
..بورقيبة مزيج متناقض من الحقائق وهو إلى حدّ ما صناعة أحسن صانعوها تسويقها..
حقائق التاريخ التي أغفلها
"المؤرّخون" عمدا وأسقطوها من الذّاكرة التونسيّة غصبا وقهرا لا تزال في
ذاكرة الأحياء ممن عرفوا بورقيبة وعاصروه وشهاداتهم تحكي ملمحا قاسيا لم يقدر
النّحّات إلى إظهاره في صورة التمثال..أسقط النحّات من مشهد التمثال ( الفارس
والجواد) ما يدوسه الجواد من مواطنين سحقتهم سنوات القهر زمن حكم بورقيبة..
كان بورقيبة حاكما طاغية
لا يختلف في صورته عمّن عاصروه من طغاة الشرق والغرب مستبدّا برأيه لا يرى في شعبه
إلا بعضا من رعاع فرّقتهم القبائل فوحّد بينهم ...في أسطورة بناء الدولة كان
بورقيبة زعيما ملهما مخالفا لزمانه وفي كلّ كلماته وخطاباته كان بورقيبة هو الدولة
والدولة هي الزّعيم ..هكذا كتب التاريخ وهكذا حفظه روّاد المدارس والمعاهد من
تلاميذ وهكذا نطقت الإذاعات وكتبت الصحف..
بورقيبة " الرجل
المدفوع بهوس الزّعامة" المجاهد الأكبر والزّعيم الأوحد لم يؤسس لفضاء تعدّدي
تختلف فيه المواقف والاجتهادات فقوله فصل وأحكامه محكمات لا تقبل التأويل..يتلوها
وزارؤه تلاوة المتعبّدين ولا معقّب لكلماته..فأرسى بها المنحى من الحكم توجّها
شموليّا استبداديّا لا تزال معالمه ظاهرة في الفعل السياسي التونسي بعد الثورة..في
التاريخ الإنساني يسعى الطغاة إلى طمس آثار من قبلهم من الأمم أو المفكّرين
والسياسيين والمثقفين ..وهكذا فعل بورقيبة حيث عمد إلى طمس كلّ ما أنتجه التاريخ
التونسي الحديث من مفكّرين ومصلحين ..في تاريخ بورقيبة علامات مضيئة أضحت باهتة
خفيّة ولا تكاد تظفر بأسماء لزعماء الحركة الوطنيّة في المقرّرات التربويّة أو
غيرها فقط يمتدّ اسم " الزّعيم" على كل فضاء أدبي أو إعلامي أو ثقافي أو
سياسي.
في التاريخ التونسي أرسى
بورقيبة دعائم النظام الجمهوري ولكنّه في حقائق التاريخ ( التي لا يكتبها
المؤرخون) امتدّ حكمه أكثر من البايات الذين ألغى حكمهم وجمع كلّ السلط بيديه وصار
حاكما بأمره لا بأمر الشعب وأرسى في النظام التونسي المعاصر محنة الحكم مدى الحياة
ككل الطغاة المستبدين..
في التاريخ التونسي الحديث
أوهام وخرافات ومن أشدّ خرافاته "الزّعيم بورقيبة" باني الدولة الحديثة
ومحرّر المرأة وتلغي هذه "التشريفات والألقاب والتسميات" أسماء كثيرة
ساهمت بدمها وقلمها في مسألة التحديث بدءا بمفكّري الإصلاح وانتهاء برجال الحركة
الوطنيّة..كان بورقيبة يرفض كلّ مثيل أو شبيه بل إنّه يقتل ظلّه حتى يستفرد
بالوجود..ولذلك صمت عن اغتيال فرحات حشّاد وتخلّص من صالح بن يوسف وقاتل أتباعه
وشرّدهم في الآفاق والمنافي..لم يكن بورقيبة رجل دولة بقدر ما كان رجل سطوة الدولة
وقهرها..
خرافة الجمهوريّة أنتجت
حكما شموليا بالغ بورقيبة في احتكاره وخرافة تحرير المرأة ألغت مجهودات المصلحين
من قبله وحوّلت هذا الأمر إلى شعار سياسي يفتقد مضمونا حقيقيّا في مناطق الدّاخل
التونسي والجنوب وخرافة الدولة الحديثة التي ألغت "القبليّة "
و"العروشيّة" عمّقت "جهويّة بغيضة" رسمت مسارات التنمية على
مدى ستين عاما فيها ظلم وحيف وتهميش..
الذين أعادوا
"التمثال" أغفلوا ركنا أساسيّا من أركان لوحة الحقيقة فلابدّ من تمثال
يناظره في نفس الشارع لضحاياه وهم كثير..فلابدّ للجلاد من ضحيّة حتى تكتمل سطوته
..ولابدّ للعين من دمع حتى تكتمل حقيقتها..
تمثال بورقيبة صورة جوفاء
لخرافة ميّتة حتما ستهوي كلّما استعاد شارع الثورة هدير الجماهير "إذا الشعب
يوما أراد الحياة".
محمد المولدي الداودي.
تونس