أحداث بنقردان الإرهابيّة
2016...أحداث قفصة الإرهابيّة 1980
سماسرة الدمّ...وتجّار الأوجاع
اقرأ الصفحة الأولى...يا قارئ
التّاريخ.
قبل العبور ..احمل زادك المعرفي
(من الضروري العودة إلى قراءة أحداث قفصة للوقوف
على عناصر التماثل بين الجريمتين.)
قد يصيبك الغثيان وأنت تستمع
لمذيع بإحدى الإذاعات التونسيّة الملوّثة لنقاء الأثير وصفاء الذهن ...وقد يصيبك
الهذيان وأنت تشاهد حصصا تلفزيّة نفث من خلالها أصحابها سموم الصّراع السياسي
والفكري..وفي الوقت الذي كتب فيه الشهداء من العسكريين والأمنيين والمدنيين
بدمائهم قصائد حبّ الأوطان ورسائل عشق البلدان كان محترفو السياسة وتجّار الوجيعة
والدّم يفتحون ملفّات الصراع السياسي ويقيسون موازين الرّبح والخسارة.
الإرهابيّون الذين أقدموا على
جريمة الفجر في بنقردان فجر يوم 07/03/2016 أعادوا إلى الذّاكرة التونسيّة أحداثا
منسيّة في التاريخ التونسي وعادوا إلى صبيحة يوم الأحد 27 جانفي 1980 حيث أضاف
المؤرّخون إلى تاريخ تونس أحداث قفصة .
بين الجريمتين تشابه عجيب في
مجرى الأحداث ومنهج القتل ومكان التدريب وطرق التنفيذ فقط شيء واحد يصنع الفارق
ويبعد بين الجريمتين وهو المجرمون القتلة:
في أحداث بنقردان 2016 جماعات
إرهابيّة أخطأت فهم السياسة والدين والتاريخ ممّن نسبوا أنفسهم إلى العمل الإسلامي
فحرّفوه ولعلّهم مزيج رهيب من العمل المخابراتي والتوظيف الأمني والسياسي والفهم
المحرّف للدين والعقيدة .
في أحداث قفصة مجموعة من
التونسيين الذين تشرّبوا الفكر القومي على منهج العقيد القذّافي وأرسلهم إلى تونس
تصديرا للثورة "وينتمي اغلب المشتركون إلى الجبهة القومية التقدمية. كما
كان اغلبهم من الشباب، غير المتزوجين، والذين تتراوح أعمارهم من العشرين إلى
الثلاثين عاما. وهم جميعا من العمال وأصحاب المهن والأعمال اليدوية والفلاحة، من
الذين هاجروا إلى ليبيا من اجل لقمة العيش، فاستغل النظام حاجتهم، وجندهم لخدمة أهداف
عبثية".
إنّ هذا التشابة بين جريمتين تفصل بينهما 36 سنة يدعونا
إلى قراءة نقديّة تاريخيّة للأحداث بعيدا عن غوغاء الساسة وأحقاد المتأدلجين وحفظا
لنقاء دماء الشّهداء وانتصار لقيمة العقل.
مسارات التاريخ تصنعها أحداثه
ووقائعه وأيّامه..وأحداث التاريخ محكومة بخطّ زمنيّ تترابط حلقاته وفق منطق
التتابع أمّا كتابة التاريخ فقصّة أخرى تحرّكها رياح السياسة وأهواء
السياسيين.ولكنّ هوامش التاريخ المنسيّة تظلّ حيّة في ذاكرة النّاس تستعيدها بعيدا
عن سلطة المنتصرين المحرّفين للوقائع وفق مقاسات مطلوبة وأزمنة منسوبة فيحذف
ويضاف.
التاريخ التونسي الحديث كان
تاريخ بورقيبة ودولته ولم يكن يوما تاريخ الشعب التونسي وعلى هامش ما سمح بورقيبة
بكتابته تلوح خطوط باهتة من تاريخ منسيّ صنع عناصر الصّراع بين دولة بورقيبة
ومؤسّساتها والخارجين عن سلطتها والمنكرين لعبقريّة الزعيم الأوحد والمجاهد الأكبر
..وضمن هذه الدائرة من الصّراع كان الخلاف بين اليوسفيّة والبورقيبيّة باعتبارها
خيارين للدولة من حيث الهويّة والامتداد ومنهج التسيير والإدارة وكانت
"المحاولة الانقلابيّة سنة 1962" أعتى تجليّات هذا الصّراع
.."انتصر"بورقيبة ولكنّ هذا "النصر" أنتج رؤية في الحكم حقّقت
تصوّرا مخصوصا خالف فيه بورقيبة كلّ حكّام العرب الميّالين إلى الاستبداد عبر منهج
الانقلابات العسكريّة فعمل بورقيبة على إضعاف المؤسسة العسكريّة خوفا من تكرار ما
حدث في الجزائر وليبيا ومصر والعراق وسوريا والسودان وغيرها من البلدان(
الانقلابات العسكريّة).
أضعف بورقيبة المؤسّسة
العسكريّة خوفا من الانقلاب فقويت المؤسّسة الأمنيّة انطلاقا من حاجة النّظام إلى
جهاز أمني قمعي يواجه حركات المعارضة السيّاسيّة وهذا ما حدث فعلا في كثير من
الوقائع التاريخيّة التي أكّدت تلك النزعة التسلطيّة التي ميّزت النظام البورقيبي
حيث واجه كلّ أشكال الاحتجاج السياسي أو الاجتماعي أو النقابي بالحديد والنار (
أحداث 26 جانفي 1978/أحداث قفصة 1980/انتفاضة الخبز 1984..)
توكّد هذه الوقائع المعبّرة عن
حلقات من الصّراع العنيف بين السلطة ومعارضيها ما رسّخته سياسة بورقيبة من مناهج
التعبير عن "الفعل المعارض" .
انتهج نظام ابن علي نفس الأسلوب
الذّي رسّخه بورقيبة في التعامل مع المختلف السياسي وسلك مسالكه في القمع
والاستبداد والقتل وأوجد بذلك نفس البيئة المولّدة للفعل المعارض العنيف وهذا ما
تجلّى في بعض الأحداث التي نسبها النظام لعناصر منتمية للاتجاه الإسلامي في بداية
التسعينات ثمّ كان الشكل الأكثر عنفا والّذي ينسجم مع تشكّلات معاصرة للفعل العنيف
في مواجهة السلطة والأنظمة ( الإرهاب) من خلال أحداث سليمان 2006/2008.
مثّلت الثورة التونسيّة شكلا من
أشكال المعارضة التي يلتقي فيها المطلب الاجتماعي بالمطلب الحقوقي بالمطلب السياسي
ولئن كانت في أغلب أحداثها سلميّة فإنّها شهدت تعبيرات عنيفة تؤكّد نزعة من العنف المصاحب للتعبير
المعارض من خلال حرق المراكز الأمنيّة..وفي الثورة التونسيّة تهاوت رموز الدولة
ومؤسساتها ممّا أنتج حالة من الفراغ الأمني الكبير الّذي استثمرته الجماعات التي
تتبنى العنف والإرهاب منهجا للتغيير السياسي.وعمّق الصّراع الإيديولوجي والسياسي
حالة الوهن الأمني الذي أصاب المؤسسة الأمنيّة وحتّى العسكريّة.
كان لعسكرة الثورة الليبيبّة
والثورة السوريّة أثر خطير أعاد الفعل المعارض العنيف إلى الواجهة بعد أن خبا في
الثورة التونسيّة وأعاد المشروعيّة للمواجهة المسلّحة للأنظمة وفي هذا الصّراع
تدافعت الأيديولوجيات تدافعا شديدا وأضحى الاختلاف بيّنا بين كلّ الفرقاء ( الثورة
الليبيّة والثورة السوريّة والثورة اليمنيّة وحدّة الاختلاف في تقييم أحداثها).
تغذّى الصّراع السياسي الشهواني
في بلدان الثورات (المدفوع بغريزة الصّراع الفكري والإيدولوجي المفتقد لعقلانيّة
إدارة الاختلاف وتسيير الخصومة ) تغذّى بحدّة الاستقطاب الدّاخلي والنزعة
المصلحيّة الغالبة على السياسة الدوليّة والاقليميّة فأنتجت مخابر المخابرات
العالميّة المتحالفة موضوعيّا مع الأنظمة القمعيّة مخلوقا مسخا هو مزيج من هستيريا
القتل وجنون الإيدولوجيا ومرض المغالاة في الدّين وأصاب هو المخلوق المسخ الثورات
الشعبيّة في مقتل .
أحداث بنقردان كما كلّ الجرائم
الإرهابيّة تطرح أسئلة كثيرة وتضيئ زوايا مظلمة يخشى الكثير تأمّلها وتفتح صندوق
ألغاز يخشى الكثير كشفه.
نحتاج إلى كتاب التاريخ التونسي
المعاصر منذ بداية تشكلّ الوعي الوطني وعلينا أنّ نتوقّف قليلا في مسارات الخيبات
فيه وعلينا أن نحصي جرائم الطّغاة في أوطاننا حتّى نتمكّن من إحصاء جرائم الغلاة
والبغاة..علينا أن نعيد رسم خطوط المتاهة العالميّة التي وقع فيها شباب انتزعوا
عقله وضخّوا في قلبه دماء قاتلة وحسّ وحشي يدفعه إلى القتل.علينا أن نصمت قليلا حتى
يطمئنّ الشهداء في سماء نعيمهم فغوغاء السّاسة تعذّب أرواحهم.
محمد المولدي الداودي
تونس