النهضة وفقه المناورة السياسيّة
محمد المولدي الداودي
الثورة: فشل النخبة السياسيّة في الاستجابة
لانتظارات الحراك الشعبي.
كانت حادثة حرق محمد البوعزيزي لنفسه
يوم 17 ديسمبر 2010 في ساحة من ساحات ولاية سيدي بوزيد القطرة التي أفاضت الكأس
والشرارة الأولى التي أوقدت نيران الثورة التي بدأت عفويّة مشدودة لهول المشهد
ومحكومة بمشاعر إنسانيّة عمّقتها مظاهر الحرمان التي كان عليها سكّان المناطق
الداخليّة ثمّ سرعان ما اتّخذت بعدا مطلبيّا وحقوقيّا أطّرته الاتحادات المحليّة
والجهويّة كما شارك المحامون والهيئات الحقوقيّة في تغذية هذا الحراك الشعبي الذي
اتّخذ شكل المواجهات في الأحياء ليلا والمظاهرات المؤطّرة نقابيّا نهارا وضمن
تنامي الحركة المطلبيّة تطوّر الشعار وتحوّل من شعار جهوي إلى شعار مطلبي أجملته
عبارة " التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق" ثمّ شعار" شغل ..حريّة
..كرامة وطنيّة".
استخفّ النظام بالحراك الثوري وحاول
استعارة نفس العبارات التي واجه بها التحرّكات الاجتماعيّة في الحوض المنجمي أو في
الجنوب وأطلقت الدوائر الإعلاميّة المحيطة بالسلطة عبارات من قبيل "
المخرّبين" وحاولت تهميش الأبعاد الاجتماعيّة كارتفاع معدّلات البطالة في
صفوف أصحاب الشهادات العليا وانتهجت نفس المنهج القديم في معالجة القضايا
الاجتماعيّة عبر تخوين كلّ صوت معارض والتركيز على المنجزات الاقتصادية للنظام (
المعجزة الاقتصاديّة ) .
لم يعد إعلام النظام قادرا على صنع رأي
عام معاد للحراك الثوري وغلب الارتباك والارتجاليّة على أدائه الإعلامي في ظلّ
انفتاح إعلامي جسّدته قناة الجزيرة وقناة الحوار اللندنيّة خاصّة وكان
"الفايسبوك" الشكل الأرقى للإعلام البديل الذّي أذكى روح الثورة وأكسبها
بعدا شعبيّا خالصا بعيدا عن الخطاب الإعلامي الرسمي وحوّل كلّ مدن تونس وقراها إلى
فضاء ثوري حيّ وقادر على ابتكار أشكال ثوريّة غير تقليديّة وغير منظّمة وبالتالي
يصعب محاصرتها.
لقد حاول النظام تحييد المكوّنات
المكشوفة للعمل المعارض للسلطة كالأحزاب " المعارضة " آنذاك أو الرابطة
التونسيّة لحقوق الإنسان أو الاتحاد العام التونسي للشغل مجسّدا في المركزيّة
النقابيّة التي أحدث توازنا دقيقا بين تزكية النظام وتحقيق كمّ مقبول من المطالب
الاجتماعيّة ولم تكن المركزيّة النقابيّة قادرة على دفع الهياكل النقابيّة
الجهويّة والمحليّة إلى الحياد بل لقد ساهمت المكوّنات الأساسيّة والمحليّة في
تأطير التحرّكات الاحتجاجيّة داخل الجهات وساهمت قطاعات كثيرة ومنها قطاع التربية
بشقيه الأساسي والثانوي في تغذية هذا الحراك بأشكال نقابيّة فاعلة ومنظّمة (
الوقفات الاحتجاجيّة وبيانات المساندة).
اتّسعت جغرافيا الثورة وامتّدت شمالا
وجنوبا واتّجه النظام وجهة المعالجة الأمنيّة العنيفة والقمعيّة وسقط أوّل الشهداء
في مدينة منزل بوزيان من لاية سيدي بوزيد يوم 24/12/2010 وهو الشهيد محمد العماري
وفي نفس اليوم كانت مسيرة شعبيّة يتقدّمها المحامون تجوب وسط ولاية القصرين لترفع
أوّل شعار ذي مضمون سياسيّ يدفع بالمسألة السياسيّة في قلب الحراك الثوري وهو شعار
" حرّيّات...حريّات لا رئاسة مدى الحياة".
في مدينة تالة والقصرين تجاوز الثوّار
حواجز الخوف وأصبحت المواجهات الخبز اليومي لشباب الجهات الداخليّة وتجاوز النظام
مخاوف المواجهة القاتلة وأدرك الساسة من الموالاة والمعارضة الحجم الحقيقي لما
يحدث في تونس وحاول كلّ منهما مغالبة الوقت في تشكيل رؤية سياسيّة تستثمر ما يحدث
وتدفعه نحو مكاسب سياسيّة .ولذلك تحرّكت بعض الأحزاب المعارضة كالحزب الديمقراطي
التقدّمي وحزب التجديد في حين حاول الحزب الحاكم البحث عن مخارج سياسيّة ضمن رؤية
مؤطّرة من حيث الحركة والهدف.
في مسارات الثورة ويوميّاتها كان
الإسلاميّون جزءا من الفاعلين الثوريين ولم تكن النهضة مكوّنا بارزا تنظيميّا.
وكان الشباب الغاضب الذي وحدّته هموم الوطن وخطايا النظام والذّي لم توجّهه أحزاب
سياسيّة أو منظّمات وطنيّة هو الفاعل الحقيقي ...كانت الثورة التونسيّة نسيج وحدها
..
أشار خطاب ابن على ليلة 13 جانفي إلى
معالم النهاية لنظام سياسيّ استبداديّ غذّته عصابات المال والفساد وأمدّه خطاب
إعلاميّ انتهازيّ وحضور حزبيّ باهت للمعارضة أمدّه باكسجين البقاء ..حاول الإعلاميّون
المرتبطون بالنظام والسياسيّون المتعّلقون به وأشباه النخب المثقّفة وأد الحراك
الثوري واستثمار الدم من أجل تحقيق بعض فتات السياسة والحقوق وكان الحديث بعيد
الخطاب متعلّقا بإصلاحات سياسيّة جزئيّة وفتح بعض من الهوامش المحرّمة في الإعلام
وحريّة التعبير والتفكير لقد فكّر كلّ "رموز" المعارضة آنذاك داخل دائرة
النظام القائم لا خارجها وأكّدوا تلك المسافة الفاصلة بين طموحات الجماهير الثائرة
ورؤى السياسيين الضيّقة.في تلك الليلة الفارقة في عمر الثورة كان تدخّل الشيخ راشد
الغنوشي واضح المعالم والملامح فاصلا مع النظام ممّا دفع كثيرا من المنتمين للحركة
إلى الالتحام العلني بشباب الثورة في الساحات والمظاهرات يوم 14 جانفي 2011.
لم تكن النهضة الحزب السياسي المحظور
إلا مكوّنا غير مرئيّ من مكوّنات الثورة وكانت جزءا من حالة ثوريّة تونسيّة تجاوزت
الأحزاب والأطر المنظّمة للمنظّمات والهيئات وكانت مجموعة من المواقف التي تتعالى
من رموزها في الخارج عبر المنابر الإعلاميّة العالميّة.
هروب ابن علي ومسابقة
ملء الفراغ:
لم يكن تهاوي نظام ابن علي بتلك السرعة
متوقّعا وهو ما أكّد وجود عناصر خلل في بنية النظام في حدّ ذاته ساعدت التحرّك
الثوري على إسقاط مكوّن أساسيّ من مكوّناته ( الرّئيس)دون أن يسقط بقيّة المكوّنات
ولقد كشف هذا التهاوي السريع والمباغت المساحات الفارغة في الحراك الثوري وعمّق
الارتباك والارتجاليّة ولئن ساعد غياب البناء التنظيمي للثوّار على الاستمراريّة
والعفويّة التي ميّزت الثورة التونسيّة فإنّه طرح بعد هروب ابن علي أشدّ المشاكل
التي طفت على سطح الواقع السياسي في تونس ومنها مسألة العلاقة بين الدولة والثورة
ولم تتمكّن المكوّنات السياسيّة لمعارضة من فهم حقيقة التحوّل السياسي في تونس
واختلفت المقاربات وعبّرت عن تباين بلغ حدّ التناقض في فهم التحوّلات وإدراك
المطالب الثوريّة.كانت الأحزاب السياسيّة المعارضة "رسميّا" مثل حزب
التجديد والحزب الديمقراطي التقدّمي أكثر ميلا للتحرّك في فضاء " الدولة
القديمة " وهي المنتوج الإداري والإعلامي والأمني والقضائي لحزب التجمّع ونظام ابن علي وما أرساه من نظم
للسياسة والحكم وكانت رؤيتهم "إصلاحيّة" لا رؤية ثوريّة وبدا الصّراع
بين الشباب الثوري الحامل لمشروع الثورة ثمّ الدولة وبقيّة العناصر المكوّنة
للمشهد السياسي كالأحزاب والمنظّمات والهيئات جليّا في القصبة 1 والقصبة 2 غير أنّ
الشباب الثوري لا يملك التجربة السياسيّة ولا الإمكانيّات التنظيميّة التي تمكّنه
من فرض رؤاه في الواقع السياسي التونسي الجديد ولذلك سارت حركة الثورة في مسارات
المهادنة وأجّلت حسم العلاقة الإشكاليّة بين دولة المنظومة القديمة التي ظلّت
قائمة في شكلها الإداري ورموزها السياسيّة ودولة "الثورة" المرتبكة
والمتناقضة.
كانت الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي التي تأسست في 15 مارس 2011 أثناء الثورة، برئاسة عياض
بن عاشور وجها من وجوه
المعادلة الصعبة التي أنتجها الواقع السياسي التونسي بعيد الثورة وهي معادلة
الثورة والدولة .والعجيب في تلك المرحلة هو مستوى التناسب بين مكوّنات السلطة
التنفيذيّة متمثّلة في الرّئيس فؤاد المبزّع ورئيسي الوزراء محمد الغنّوشي في
مرحلتين والباجي قائد السبسي في مرحلة ثالثة فهؤلاء علامات رمزيّة لبقاء الدولة
القديمة واستمراريّة نظامها وقدرتها على حماية عناصرها الإداريّة والأمنيّة
والقضائيّة أمّا الهيئة التي عبّرت ولو جزئيّا عن ملامح المكوّن الثوري باعتباره
قوّة تشريع وتسيير فإنّها جمعت نشازا من الفرقاء الذين استوعبهم فراغ الواقع
السياسي ولم تجمعهم الرؤية الثوريّة ولا الموقف السياسي الموحّد .
داخل
الهيئة استفاد اليسار والقوميّون من القدرة التنظيميّة التي رسخّها العمل النقابي
والحقوقي زمن نظام ابن علي في حين افتقدها الآخرون. وداخل الهيئة كذلك استعاد
فرقاء السياسة والفكر معاركهم القديمة التي أجّلها النظام عشرين عاما واطمأنّ رموز
الدولة القديمة لغفلة الثائرين وغذّوا معاركهم عبر خلق انحرافات وهوامش بعيدا عن
أسئلة الثورة واستحقاقاتها ...للدولة القديمة قدرة على التحريف والتزييف وصناعة
المعارك الوهميّة التي انجرّ إليها هواة السياسية ومغامروها وعلت شعارات غير التي
ألفها الثوّار في الشوارع والساحات ..إنّ أشدّ أشكال التحريف والتزييف التي طالت
الحراك الثوري هو نقل المعارك الإيديولوجية المعزولة عن مقامها والغريبة عن سياقها
إلى الواقع التونسي الجديد الذي أفقده النظام القمعي المهارة النقديّة والمناعة
السياسيّة ..لقد كان اختراق الجسم الثوري بأدوات ثوريّة مزيّفة ومنها معارك الحداثة
والهويّة ومعارك الدّين والدولة ...هي معارك واهمة ومضلّلة أفقدت الثورة زخمها
وعفويّتها وحوّلت الفعل السياسي إلى ممارسة اقتناص للخصوم وتجريح لهم.لقد أدرات
الدولة القديمة معركة بقائها بقدرة عالية وسقط " الثوريّون الجدد" في
المتاهة وأمضوا جهدهم الثوريّ في دائرة مغلقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق