النهضة وفقه المناورة السياسيّة
محمد المولدي الداودي
النهضة: إعادة اكتشاف الذات .
لم
تكن عودة الشيخ راشد الغنوشي إلى تونس يوم 30 جانفي 2011 مجرّد حدث عابر بل لقد
كانت عودته علامة فارقة في الثورة التونسيّة وإحدى علامات تحوّلها وعنصرا من عناصر
تكوّنها التي يمتزج فيها الواقعي بالحالم وهي مساحة التداخل العجيبة بين دائرة
المحنة ودائرة التفاؤل.عودة الشيخ راشد الغنوشي عودة لقطعة من التاريخ التونسي
المعاصر التي أسقطها النظام بكلّ مكوّناته الأساسيّة أو الخفيّة وحاول طمسها عبر
قوّة الدولة ومؤسساتها ..الفكرة أحيانا أقوى من الدولة وما يطمسه الجلاّد تحفظه الأرض والذّاكرة..عاد الشيخ راشد الغنوشي المحنة
والفكرة ..ليختبر الشيخ نفسه زمن الثورة.
في
سنين المحنة والغربة تغيّر الإنسان والأوطان وتلوّنت أفكار الحركة بألوان تربة
المهجر وعصفت رياح كثيرة في ثوابت الفكر والقناعة.وفي تونس رجال آخرون غيّرتهم
سنون القمع ..فماذا لو أنكر الأصل فرعه؟ ..وماذا لو أنكر الشبيه شبهه ؟.
أصبحت
الحركة مكوّنا من مكوّنات الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي وجزءا من عناصرها الإديولوجيّة وخصما من خصوم السياسة
داخلها.وداخل الهيئة تراءت بعض ملامح هيئة 18 أكتوبر وانكشفت بعض أضاليلها...فما
يصنعه الاستبداد تذهبه أوهام الحريّة. وداخل الهيئة سقطت النهضة ككل الأحزاب
المكوّنة لها في فخّ الايدولوجيا ولم تستوعب كبقيّة مكوّناتها مخاطر الدولة
العميقة وقدرتها على التشكيل الذاتي لصورة مموّهة تتجاوز الصورة الأصل ولكنّها
تحتفظ بسماتها الأساسيّة وعوامل بقائها ..في معارك الهيئة تجليّات لرؤى الحكم
والسياسة وتناظرات بين المواقف في مسائل الاقتصاد والنمط الاجتماعي والثقافي
ومحاولة للتحشيد الانتخابي ضمن سباق محموم نحو السلطة ولم تسأل كلّ الأحزاب وكل
المنظّمات والهيئات المكوّنة للهيئة عن المكوّنات العميقة للسلطة والحكم ومدى
استجابتها للواقع الجديد وقابليّتها لاستيعاب الفكر الثوري والرؤية الثوريّة.
في
الوقت الذي استعادت فيه الأحزاب المعارك الفكريّة القديمة كانت الدولة العميقة
تجدّد طرائق خطابها وتتطّهر من خطاياها ومفاسدها لتعيد بناء الوعي الشعبي عبر
القفز إلى الوراء وتجاوز مرحلة تمتدّ في
التاريخ التونسي المعاصر على مدى ثلاث وعشرين عاما فكان الباجي القايد السبسي
الصورة المستوحاة من الصورة النموذج للزعيم ( الحبيب بورقيبة ).
إنّ
إجهاض أيّ محاولة لتفكيك العناصر المكوّنة للعمق الفاعل في الدولة العميقة كالجهاز
الأمني أو القضائي أو الإداري وبناء هياكل مماثلة للهياكل التنظيميّة التي ساهمت
في نجاح الثورة كالنقابات أو المنظّمات أو حتى الأحزاب تعبّر عن
قدرة الدولة العميقة على تحليل العناصر البنائيّة للحراك الثوري من جهة كما
تعبّر عن وعي الدولة العميقة بعجز الأحزاب المشكّلة حديثا على إنتاج بدائل للحكم
والتسيير من جهة ثانية.تعدّدت النقابات الأمنيّة وتشكّلت نقابة للقضاة وتمّ دفع
فرحات الراجحي للاستقالة واستعان الباجي قايد السبسي بالمخزون الحزبي والإداري
والأمني للمنظومة القديمة ووجّه كلّ الأحزاب نحو السباق الانتخابي وأمات كلّ
العلامات الرمزيّة المكوّنة للذاكرة الثوريّة انطلاقا من مفارقة (الفوضى وهيبة
الدولة ) ولذلك دفعت كلّ الأحزاب للمشاركة في قتل النفس الثوري الأخير في القصبة
3.
لم
يمكّن تسارع الأحداث وتطوّر الواقع السياسي وتناقضاته لم يمكّن كلّ هذا حزب حركة
النهضة من تلمّس الأرضيّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والسياسيّة للمجتمع
التونسي ولم يمكّنه من اكتشاف التحوّلات التي أنتجت تلك اللحظة الثوريّة كما أنّ
تعدّد الروافد واختلاف التجارب بين المؤسسين للحزب والمنتمين إليه لم ينل حظّا من
الاهتمام .
في
حزب حركة النهضة مدارس سياسيّة ومواقف متباينة ورؤى مختلفة قد تبلغ حدّ التناقض
أحيانا فالقادة الذين تشرّبوا التجربة الديمقراطيّة في سنين المنفى في المهجر
أدركوا من السياسة ما لم يدركه قادة الدّاخل الذين خبروا قمع النظام وظلمه وكانوا
الأكثر تعبيرا عن معاناة الناس في ظلّ الاستبداد وقادة الدّاخل هم الذين أداروا
بعضا من التوافقات السياسيّة زمن الاستبداد وشاركوا في الحراك الحقوقي والنقابي أو
الطلاّبي واكتسبوا في سنين المحنة قدرة على المناورة وفرض مساحات للحركة السياسيّة
بعيدا عن المراقبة أو المتابعة واستفادوا من التجربة اليساريّة أو القوميّة عبر
خلق فضاء مخفيّ للعمل السياسي عبر تلوينات نقابيّة أو مداخل حقوقيّة ولقد أعاد
الإسلاميّون عقد الصلة بينهم وبين النّاس وصاروا جزءا من هموم النّاس ومعاناتهم
كما عبّروا عن بدايات تشكّل لفعل الرّفض المضمّن في إطاره الشعبي لا السياسي (
معركة الحجاب في تونس ).
ألغى
التسارع في وتيرة الأحداث السياسيّة بعد الثورة كشف التباينات وأخفى مناطق
الاختلاف بين مكوّنات الحركة وعناصرها التاريخيّة ولم يتح للملاحظين إدراك
التحوّلات الفكريّة أو الحركيّة التي أصابت منهج الحركة ودفعتها إلى المراجعة وفق
قراءة نقديّة للمسار ولذلك اختلف خطاب الحركة الجماهيري واختلفت صور حضورها لدى
النّاس.
لم
تكتسب النهضة صورة واحدة في وجدان أنصارها والمنتمين إليها حديثا من الشباب بل
كانت عند البعض تفاعلا وجدانيّا دفعته أدبيّات السجون والمنافي وتضامنا إنسانيّا
حكمته روح الاعتراف بمدى الظلم الذّي طال هؤلاء النّاس وكانت كذلك انشدادا فكريّا
لفكرة الإسلام والشريعة والدّين وأحيت حركة النهضة وهي الامتداد الفكري للاتجاه
الإسلامي , أحيت لدى شريحة "متديّنة " من الشعب التونسي أحلام العودة
إلى اللحظات المضيئة من التاريخ الإسلامي وهي لدى المقهورين والمظلومين اجتماعيّا
صورة " لتقوى السياسية" التي تقوم بديلا لصورة الفساد والارتشاء
والمحسوبيّة والتفاوت الجهوي والاجتماعي.
لم
تكن النهضة مجرّد حزب سياسي بل كانت كلّ هذا الكمّ المتداخل من المعاني والأحلام...كانت
النهضة أفقا متفائلا يسعى إلى تجاوز واقع مأزوم ومألوم..ولم يكن أحد ليدرك الحدود
الفاصلة بين تلك العناصر المتآلفة ولم يكن أحد ليدرك الحدود الفاصلة بين أحلام
الفعل وإمكاناته بل إنّ كثيرا من قادة النهضة وزعمائها أجّلوا البحث في المكوّنات
البنائيّة للحركة وتعمّدوا المزج بين عناصر اللوحة المتباينة والمتناقضة التي
كوّنت جاذبيّة النهضة ..إنّ النزوع إلى الغموض وتعمية المشهد عنصر من عناصر
الإدهاش وخلق صورة فاتنة وجاذبة.