المشاركات الشائعة

الجمعة، 30 سبتمبر 2016

القصرين: الموت قهرا

القصرين: الموت قهرا



حدّثني مرافقي في رحلة المائة كلمتر إلى مركز ولاية القصرين قال.
ولدت على عجل عليلا وكنت أكبر الأطفال وأكثرهم دلالا ..ولعلّ علّتي قرّبت حبل مودّتي من والديّ وكبرت كأبطال الخرافات ترعاني آمال عائلتي وكنت حلمهم قاسيا وجميلا ..الجسد العليل ينمو كزهرة بريّة ولكنّه يؤكّد في علّته نبوغا أدركته أمّ تقرأ جيّدا خفايا العقول..
دخلت المدرسة على عجل كولادتي فقد دخلتها في سنّ الخامسة حيث بنى الأهل مدرسة من حجارة أرضهم وقليل جيوبهم وعسير جبينهم وسنينهم وكنّا قليلا من صبية استقدمنا الأهل من مواضع لهونا وكتّاب نهوي إليه نتلّهف القراءة لهفة الظمآن يبتغي الارتواء.
ننام على أحاديث الجدّات تسير بنا في مسارب الخيال وترسم في وجداننا الغضّ عوالم سحريّة فسيحة وفي الصبح نندفع نحو المدرسة نشرب النّصوص ونأكلها أكل النهم لا يشبع...
كان مرافقي يحدّثني حديث الوجع يريد أن ينفذ من كل جرح وكنت أحيانا أنشغل عن حديثة بالردّ على مكالمة أو بالعبث بهاتفي وكنت أرى في عينه وجعا خفيا لا تقدر الكلمات على وصفه..سارت بنا الطريق وسار صاحبي في متاهة الذكريات..قال
كنّا على يقين أنّ الاخفاق في الدراسة يساوي انقطاعا عنها فلا مجال للرسوب ..وكنّا نرى في فقرنا الظاهر دافعا قويا للنجاح وتلك معادلة الأهل في القرى المحرومة في ولاية القصرين.
قال : في سنوات الجامعة اقتحمنا المدن الكبيرة وكانت تسكننا القرى نحملها في شوارع العاصمة ..وكانت تتبعنا دعوات الأمّهات وهنّ يهرقن بعضا من ماء خلف خطواتنا حين نفتح أبواب الرحيل..
أتممت الدراسة يلاحقني الفقر فأسبقه بالنجاح واشتدّ في وجداني عواء الحلم فاتبعته وأردت اختراق محظور البلاد وسجّلت في المرحلة الثالثة على عسر من أهلي وضيق ولكنّه غواية الأحلام في بلد الهزائم..
قال : لم استطع تسديد القسط الثاني من معاليم الترسيم وكانت الامتحانات رهان الإدارة في إرغام الطلبة على الدفع مكرهين..دخلت القاعة أريد الامتحان وكان أن نادي صوت في أوّل الفصل يطلب وثيقة التسديد واقتربت خطواته مني واشتدّ وجيف الصدر يريد أن ينطق ..رفعت بصري أجيب عن السؤال ولم أشأ البكاء هيبة رجولة حملتها من قرية قاسية..حملت قلمي وبعضا من كبرياء مجروح..خطواتي سريعة في الرّواق..وأنفاسي المحمومة تخطّ سطور الجحيم..
في المحطّة كان الفراق..المدن الكبرى لا تحتمل أحلام القرى الصغيرة..ودّعته ..ثمّ أسرعت نحو سيارة تاكسي..وفي الطريق لا أزال أسمع عواء موجعا يقتل فيّ وطنا بحجم الجرح والجوع.
محمد المولدي الداودي



ليست هناك تعليقات: